لم يكن العام 2019 في لبنان كسابقاته من الأعوام الماضية، على صعيد العلاقة بين المصارف وعملائها، فلا انسيابية في التعاطي، بل تقنين في السحوبات والتحويلات مع تحديد سقف لها سواء أكانت الوديعة بالدولار الأميركي ام بالليرة اللبنانية.
كان سقف السحب بالدولار الأميركي يتدنّى رويداً رويداً، من 5 آلاف دولار شهرياً في آب الماضي إلى ألف دولار شهرياً في أيلول، فـ400 دولار في شباط 2020، إلى أن حُجب نهائياً في شهر آذار، تحت ذريعة عدم القدرة على شحن العملة الخضراء من الخارج نتيجة إقفال مطار رفيق الحريري الدولي، التزاماً بسياسة التعبئة العامة التي فرضتها الحكومة، للحدّ من انتشار وباء كورونا.
حجج واهية تسقط الواحدة منها تلو الأخرى. الدولار النقدي لم يعد متوافراً بالحدّ المطلوب في المصارف اللبنانية.
إقرأ أيضاً: تعميم سلامة: “هيركت” 50 % على الودائع فوق 3 آلاف دولار
اللافت أنّ وضع سقف على السحب المصرفي انسحب على دول عربية أخرى. فها هي مصر تتّخذ إجراءات مشابهة، والحجّة كورونا أيضاً. فالمصرف المركزي المصري حدّد في قرار مفاجئ له أسقف السحب، بقيمة 5 آلاف جنيه للأفراد، و50 ألف جنيه للشركات.
فهل بدأت مصر تعاني هي الأخرى شحّاً في الدولار الأميركي، وتسير على خطى اجراءات المصارف المحلية اللبنانية؟
يرى المحلل الاقتصادي في “المعهد اللبناني لدراسة السوق”، مجدي عارف، أنّ للاجراءات المتخذة في مصر تأثيرات مدمرة على الاستثمار وجذب الأموال والاقتصاد بأكمله، تماماً كما يحصل في لبنان، اليوم. فـ”قبل بدء الثورة في لبنان، شهد سعر صرف الدولار عند الصيارفة ارتفاعاً ملحوظاً، عن السعر الرسمي، مع عدم قدرة المصرف المركزي على ضخّ الدولار في السوق لتثبيت سعر الصرف. عندها سارع المودعون إلى سحب أموالهم من المصارف، إما نقداً وإما عبر تحويلها إلى الخارج. ثم بدأت الثورة وأقفلت المصارف لمدة 14 يوماً لتفتح أبوابها من بعدها مع كابيتال كونترول غير مقونن على المودعين”.
وعلى عكس سرعة اتخاذ القرار في مصر، يقول عارف لموقع “أساس” إنّ محاولات الحكومة اللبنانية لقوننة هذا الإجراء “لا تزال تتعرقل كون ما يطرح يناقض بشكل واضح ما نصّ عليه الدستور اللبناني، بأنّ النظام الاقتصادي حرّ، ويكفل المبادرة الفردية والملكيّة الخاصة. وقد ميّز هذا النظام لبنان عن الدول المحيطة به ومن ضمنها مصر”. ويتابع: “نادراً ما واجه لبنان، على الرغم من الأزمات المتتالية التي عصفت به، نقصاً في أيّ من السلع والحاجات المستوردة التي يشتريها بالدولار. وتمتع اللبنانيون، رغم الحروب، بمستوى معيشي أفضل من بقية الدول القريبة، حيث كان للدولة قدرة تدخّل أكبر في اقتصادها. أمّا في مصر، فقد برزت أزمات في العديد من المواد الأساسية، مثل الأرز، إذ تؤمن الدولة حاجات البلاد كاملة، وتشتري كميات ضخمة من الخارج بالعملة الصعبة”.
في المحصّلة، وعلى غرار ما فعلته المصارف اللبنانية، خلال الأشهر الماضية، تبنّى المصرف المركزي في مصر منذ أيام قرار فرض قيود على السحوبات، أدّى إلى تهافت المودعين على المصارف في حالة هلع لسحب أموالهم، وتخزينها في المنازل، ممّا زاد من الزحمة في المصارف، وعرّض الكثيرين لخطر العدوى بفيروس كورونا. ولا شك في أن هذا الأمر، سيزيد من نسبة السرقات، ويحول الاقتصاد إلى اقتصاد نقدي “Cash Economy”.
ينبغي على الدولة، في ضوء تردّي الأوضاع في كلا البلدين، إعطاء الثقة للمودعين، والمستثمرين على حدّ سواء، عبر التأكيد على حماية أموالهم في المصارف، لا حجزها وحرمانهم منها، في وقت هم بأشدّ الحاجة لها
هناك إضافة في الحالة المصرية وهي أنه لا يحق للمودع أن يدع في حسابه أكثر من 10 آلاف جنيه نقداً ، تحت شعار منع تبييض الأموال.
يتابع عارف: “لطالما تميّز لبنان عن محيطه بفضل حريته الاقتصادية، وسهولة تحويل رؤوس الأموال، لكنّه بدأ يخسر هذه الهوية شيئاً فشيئاً، إذ اندفعت الدولة إلى الاستدانة بشكل هستيري، لسنوات عديدة وبفوائد عالية, وعند فقدانها الثقة، قامت برفع الضرائب على المواطنين، حتى استحوذت على 35 % من الناتج المحلي، ثم أتبعت ذلك بفرض ضرائب جمركية مرتفعة، على السلع المستوردة. وتتّجه الدولة اليوم إلى الاستحواذ، على ما تبقى من أموال اللبنانيين في المصارف، عن طريق قانون الكابيتال كونترول (الذي سحب من التداول مؤقّتاً). ويحصر القانون الذي كان متداولاً السحوبات بالليرة اللبنانية وعلى سعر صرف وهمي قد يكون 2000 ليرة للدولار، ما يعني أنّ المواطن سيخسر 33 % من مدّخراته على الأقل، إذا ما احتسبنا سعر صرف الدولار الواحد على 3000 ليرة كما هو اليوم”، وهو مرشّح للارتفاع كلّ يوم.
ومن المؤكّد أنّ لتقييد أموال المواطنين، سواء في لبنان أم في مصر، تداعيات عميقة على الاقتصاد، تفاقم الأزمة بدلاً من حلّها. وينبغي على الدولة، في ضوء تردّي الأوضاع في كلا البلدين، إعطاء الثقة للمودعين، والمستثمرين على حدّ سواء، عبر التأكيد على حماية أموالهم في المصارف، لا حجزها وحرمانهم منها، في وقت هم بأشدّ الحاجة لها.
وفي الآونة الأخيرة، أعادت مصارف أميركية تعديل سقف للسحوبات اليومية ما بين 300 دولار و 1500 دولار، بحسب حجم الوديعة. في هذا الإطار يوضح عارف أنّ ما يحصل في الولايات المتحدة الأميركية لا يشبه بتاتاً الوضع القائم في كلّ من لبنان ومصر: “ففي أميركا تقوم المصارف بهذه الخطوة، بين الحين والآخر، وتعدّل من سقف السحوبات المحدّد، كل مصرف على حدة، حرصاً على مكافحة تبييض الأموال”.
ويشرح عارف أنّه من خلال هذه الحسابات، يمكن للفرد القيام بعملية تحويل أموال، دون خضوعه لرقابة مباشرة من إدارة المصرف، أو ما يعرف بالـ(ACH) payments. كذلك تعتمد المصارف على تحديد سقف السحوبات، لحماية المودعين، على حدّ زعم مصارف أميركية، من تعرّضهم لسرقة بطاقات الائتمان العائدة لهم.