نجح “حزب الله” في اختراق آخر حصون الدولة. تمكّن الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله من فرض إملاءاته على حاكم مصرف لبنان رياض سلامة من خلال التعميمين الأخيرين 148 و149، وتالياً على المصارف اللبنانية، من بوابة “صغار المودعين”.
انقضّ نصرالله على ملف مالي نقدي كان وفق القِسمة التقليدية، من حصة ما يُسمى قوى “14 آذار” (على رأسهم تيار المستقبل) فأسقط هذه القِسمة إلى غير عودة. ربما هي المرة الأولى التي يتعدّى فيها الحزب حدود الأمن والعسكرة والجيوسياسة، ليدخل في تفاصيل ملف مالي، مكرّساً نفسه بذلك مرجعية مطلقة في الملفات الداخلية على الصعد كافة.
في الشكل وبعد نسف قانون الـ”كابيتال كونترول” بواسطة حليفه رئيس مجلس النواب نبيه بري، تمكّن الحزب من الضغط على الحاكم فأخرجه “عن طوره” في تعميمين هجينيين كانا مادة دسمة للتأويل الصحافي ولسخرية الجمهور وتساؤلاته على مدى الأيام الخمسة الماضية. واحدة منها نكتة تقول: “فقط في لبنان، الـ3 آلاف دولار تساوي تسعة ملايين والـ4 آلاف دولار تساوي ستة”.
إقرأ أيضاً: سلامة يستطلع بنار “التعميم” كذب المصارف
أما في المضمون، فلا بدّ من السؤال عمّا دفع “حزب الله” إلى اتخاذ قرار كهذا، وهل هو قادر على معرفة الهوية الطائفية الغالبة لدى “صغار المودعين”؟ هل غالبيتهم من بيئته الحاضنة؟ ولمَ حُدّد السقف بـ3 آلاف وليس 10 آلاف مثلاً (الـ3 آلاف هو رقم قريب من الأرقام التي حدّدها نصرالله في خطابه)؟
مصرفياً، لا شيء يؤكد أنّ تحديد هوية المودعين الطائفية هو أمر سهل إلى هذا الحدّ، لكنه ممكن، والأمر كذلك بالنسبة إلى تحديد تقريبي لعدد المستفيدين. ففي الأيام الماضية، خرجت نظريات تحدّد الرقم الإجمالي الذي سيُدفع بنحو 750 مليون دولار، لكن ليس هناك أرقام واضحة ولا تأكيدات. حتى إنّ عدد “صغار المودعين” يعتريه الكثير من الشكوك. البعض يضع الأعداد في حدود 1.7 مليون حساب، فيما رئيس لجنة الرقابة على المصارف المنتهية ولايته سمير حمود، قال في حديث مع أحد المواقع إنّ عدد الحسابات “هو قرابة مليون فقط”.
لكن بمعزل عن التفاصيل المصرفية والأرقام، لا مفرّ من القول إنّ نصرالله قد استطاع في غضون أسبوع فَصَلَ بين خطابه وتاريخ نشر التعميمين، أن يترك انطباعاً لدى أيّ مودعٍ سيدخل المصرف مستقبلاً ليحصل على دولاراته ولو كانت 50$ فقط، ومفاد هذا الانطباع: “لولا السيد لما حصلت على أموالي”.
هي “هدية” أرادها نصرالله أن تُدفع من أموال البنك المركزي إلى مئات آلاف المودعين (ولو نظرياً)، من خلال منحهم ما يقارب ضعفي مالهم الدفتري، علّه يلمّع بها صورة حزبه بين جمهوره وبين سائر اللبنانيين أيضاً. وهي أموال ربّما يستحقّها هؤلاء، لكن ألا يستحقّ مثلها من يملك 3 آلاف دولار ودولار، أو 3 آلاف ومئة دولار؟
وهي أموال ستُعطى إلى هؤلاء في وقت تخلّت الحكومة عن واجب سداد ديونها، مشهرة إفلاس الدولة، وفيما هي تتلكأ في تقديم مساعدات عاجلة إلى مواطنين محتجزين في بيوتهم منذ أسابيع بسبب جائحة كورونا، بلا عمل ولا مال، وعلى شفير الجوع. دولة ما تنفكّ تقول: “لا نملك الأموال”.
إذاً، نصرالله أراد أن يقول لنا: دعكم من الدولة، إذا أردتم نفوذاً من خارج الأطر الدستورية واتفاق الطائف فأنا “الضمانة السياسية”. أما إذا أردتم أن تحصلوا على أموالكم أو ترسلوا جزءاً منها لأولادكم العالقين في الخارج ولا يلبّيكم رياض سلامة أو رئيس جمعية المصارف سليم صفير، فأنا “الضمانة النقدية”، من دون أن ننسى العرض العسكري – الطبي للآليات والمعدات قبل أيام، والتي تختصر أيضاً حديثه المفترض عن “الضمانة الطبية”.
أضف إلى ذلك أنّه وجد في التعميمين، فرصة. لربّما تعفيه أو تؤخّر تكبيده مصاريف مساعدات مطالب أن ينفقها على بيئته لبعض الأسابيع، ريثما تتضح الصورة مع اقتراب شهر رمضان.
رأي آخر يوّسع مجال البيكار أكثر من ذلك، ويربط خطوة الحزب بالمشهد الإقليمي وبالمعاناة الإيرانية مع كورونا. فإيران التي ترزح تحت نير العقوبات الأميركية، باغتتها الجائحة وزادت في أمورها الداخلية تعقيداً. ولأن هامش المواجهة يزداد ضيقاً يوماً بعد يوم، تتطلّع طهران إلى هدنة مع واشنطن بغية التقاط أنفاسها قليلاً. ونصل إلى “وقف إطلاق نار سياسي” تمكّنت إيران أن تفرضه على الأوروبيين من مدخل كورونا والاعتبارات الإنسانية، لكن ذلك لم يفلح مع الولايات المتحدة التي لا يبدو أنّها تقيم وزناً لأيّ بُعدٍ إنسانيّ خارج حدودها، خصوصاً في ظل سياسة الرئيس دونالد ترامب.
في غضون هذا كله، يتفتّق في الأذهان سؤال عمّا يُجبر رياض سلامة على تقديم هذه ورقة إلى حزب الله؟
لهذا، تجنّد طهران أذرعها في المنطقة للهيمنة على الملفات والمؤسسات “المطلّة على واشنطن”. ملف العميل عامر الفاخوري كان واحداً منها، وكذلك ملفا مصرف لبنان والقطاع المصرفي هما منها طبعاً. كلام المتحدثُ باسم السفارة الأميركية في لبنان كايسي بونفيلد عن “المرحلة الدقيقة والتعيينات” في مصرف لبنان و”تقديم النُصُح” بشأنها، هو كلام واضح جداً في هذا الصدد.
لكن في غضون هذا كله، يتفتّق في الأذهان سؤال عمّا يُجبر رياض سلامة على تقديم هذه ورقة إلى حزب الله؟ الجواب البديهي على ذلك يفترض التشكيك في قدرة المصارف على تنفيذ التعميمين، ويعتبر أنّ المصارف حريّ بها تنفيذ التعميم “زيادة رأس المال” الذي يخصّ مصيرها أولاً، قبل الحديث عن منح “صغار المودعين” أموالهم.
فإذا كان طلب نصرالله محصوراً في هذه الشريحة “المتواضعة” من المودعين فقط فهو حتماً طلب بسيط، خصوصاً في قاموس المصارف وقاموس الحاكم أيضاً، لأنّ الحسابات بالليرة اللبنانية لا حجوزات عليها. كما أنّ الحسابات المفعّلة أقلّ من ذلك بكثير، فالأرقام المذكورة في التقارير الصحافية مشمول ضمنها “الحسابات الراقدة” Dormant accounts منذ سنوات، وأيّ تغيير في رقم “1.7 مليون حساب”، سيغيّر حتما نسب أرقام الحسابات الأخرى، ومصرف لبنان هو الجهة الوحيدة التي تملك حقيقة الأرقام وخريطة توزّعها.
وعليه، فإذا كان طلب نصرالله “بسيطاً” إلى هذا الحدّ، فالحاكم ليس مضطراً أن يفتح حرباً مع الحزب طالما أنّ تنفيذ مطلبه سيبقيه رقماً صعباً ضمن حلبة السباق إلى رئاسة الجمهورية، وقد يظهره متعاوناً في شأن مشكوك في نتائجه وفي تحقيقه… طالما أنّ مفاعيل الجائحة مستمرة والمصارف مقفلة.