لا يبدو أنّ “كوفيد-19” المستجدّ يقطع الأعناق ويحصد الأرواح وحسب، بل تتجاوز تداعياته البعد الصحي ليقطع الأرزاق ويضرب صميم البعدَين الاقتصادي والمعيشي، فإذا به يقفل أبواب المؤسسات الكبرى ويشرّد العاملين بها ويهدّد لقمة عيش آلاف المواطنين، لتتجاوز نسب البطالة المرتفعة أصلاً في لبنان الخطوط الحمر، وتبشّر بمجاعة ربما أصبح اللبنانيون على أبوابها.
بالأمس أقفل فندق “الحبتور” أبوابه وودّع موظفيه “بشكل كامل ونهائي لمدة غير محدّدة”، بسبب الأوضاع المستجدة في لبنان عقب انتشار فيروس كورونا وإعلان التعبئة العامة، ليلحق بمجمع التسوّق “لو مول” الذي أقفلته مجموعة “أزاديا” المستثمرة قبل أشهر بسبب تردّي الأوضاع الأقتصادية.
واليوم حالات صرف عشوائية تشهدها مجموعة ABC في صفوف العاملين لديها في فروع عديدة من لبنان، وهي التي كانت قد اتخذت قراراً بإقفال أبوابها قبل أسابيع تماشياً مع قرارات الحكومة بإقفال المؤسسات وإعلان التعبئة العامة.
إقرأ أيضاً: 50 ألف “نمرة حمرا”: عائلات على حافة الجوع
وفي التفاصيل، يوضح أحد موظفي “ABC – فردان” لـ”أساس” أنّه منذ يوم الجمعة بدأت الإدارة تستدعي عدداً من الموظفين تحت عنوان “Cut Cost” وتطالبهم بالتوقيع على استقالاتهم وبراءة ذمة بحجة الوضع الاقتصادي الذي زاد سوءاً مع فرض الإقفال العام عملاً بقرار التعبئة العامة الذي فرضه فيروس كورونا.
تمتدّ اجتماعات الاستدعاء على ثلاثة أيام، الجمعة، والسبت، ويكون آخرها يوم الاثنين. بعد اليوم الأول يكشف الموظف نفسه أنّ عدد موظفيABC – فردان انخفض من 23 إلى 11 موظفاً، موزّعين على 14 brand موزّعة على 7 أقسام. ويتوقع الموظف، الذي يرفض نشر اسمه كونه في دائرة الخطر، تبعاً للأخبار المتنقّلة في المجمع، أن يتم الاكتفاء بدوام واحد بدل دوامين، وينقل أيضاً توقّعات بإقفال فرعABC في فردان كلياً وتوزيعه على فرعي الضبية والأشرفية.
يؤكّد موظف آخر في مجموعة “ABC – الأشرفية”، أنّه في اليوم نفسه (الجمعة) تمّ تبليغ 100 موظف بصرفهم من العمل، ويُتوقّع أن يرتفع عدد المصروفين إلى 150 موظفاً، ويحصل المصروفون على رواتب 3 أشهر (كصرف تعسفي) من دون الحصول على مستحقاتهم من تعويض سنوات نهاية الخدمة. وكان لافتاً بحسب الموظف التخلّص من الموظفين ذوي الرواتب المرتفعة نسبياً والإبقاء أكثر على من راتبه أقلّ ولا يرتّب على الإدارة تكاليف مرتفعة شهرياً.
حال موظفي ABC كحال آلاف الموظفين في لبنان اليوم، متروكين لمصيرهم، في ظلّ أزمة شرسة ومؤسسات تتخذ التدابير الأشرس وتنسحب تكتيكياً من سوق العمل “والعترة عالموظف” الذي ترتفع بورصة بطالته مع سقوط عقود العمل الواحد تلو الآخر.
كانت نسب البطالة قبل ثورة 17 تشرين تقدّر بـ35 % في لبنان، بحسب الخبير الاقتصادي البروفيسور جاسم عجاقة، وخسر خلال أوّل شهرين من الثورة 160 ألف لبناني موزّعين على قطاعات مختلفة معظمها خدماتية، تبعاً لتقرير “INFO PRO”، ووصلت نسبة البطالة ما قبل الكورونا إلى 50 %. أما اليوم فيصعب التكهن بنسبة البطالة مع توجّه عدد كبير من المؤسسات لا سيما الخدماتية منها للإقفال، إما إفلاساً وإما تذرعاً بالأزمة، ومع بطالة تقنية فرضتها الظروف الصحية بنسبة 90 %، يُتوقع أنّ قسماً كبيراً من ضحاياها لن يعودوا إلى العمل مجدداً بعد انتهاء الأزمة، ويرفض هنا عجاقة التكهن بالرقم المحتمل ما بعد انحسار موجة كورونا عن لبنان ويكتفي بالقول إنّ الرقم سيكون “مرعباً”.
ويؤكّد في حديثه لـ”أساس” أنّ معظم الشركات التي تتجه للإقفال تتبع الـ”exit strategy” للخروج من سوق العمل قبل الدخول في مرحلة الخسائر وتستبق بذلك الخسارة، لتعود ربما إلى السوق بعد تحسّن الأوضاع بأسماء مختلفة، وليس بالضرورة أن تكون المؤسسات دخلت حيّز الخسارة فعلياً: “فلا يمكننا التأكّد من ذلك بسبب التهرّب الضريبي الكبير في لبنان، فكل المؤسسات قد تكون خاسرة أو تكاد لا تحقّق أرباحاً، لكن فعلياً قد تكون بعيدة عن الخسارة”.
لم تجتمع الوزارة ولم تقم حتى باتصالاتها اللازمة لمتابعة الأزمة، على غرار باقي الدول، بل تترك العمال لمصيرهم ولقمة سائغة بفم المؤسسات
ويدعو عجاقة المؤسسات إلى الالتزام أخلاقياً وتسيير أمور موظفيها “بالتي هي أحسن، ولو بجزء من الراتب عوضاً عن الصرف التعسّفي، لأنّ ارتفاع نسبة البطالة سيعود لينعكس على القدرة الشرائية، وتالياً على الدورة الاقتصادية ومستقبل الأعمال في الفترة المقبلة، ما يرتّب على الشركات من خسارات غير مباشرة لاحقاً”.
ماذا عن وزارة العمل، وما هو دورها في هذه الأوضاع؟
يتذمّر مصدر معنيّ من تعاطي وزارة العمل “غير المسؤول” مع الأزمة، ويقول هذا المصدر المطّلع عن قرب على عمل الوزارة، في حديثه لـ”أساس”: “يا عيب الشوم… وكأنّ لا أزمة تضرب عمال لبنان في صميم لقمة عيشهم، فلم تجتمع الوزارة ولم تقم حتى باتصالاتها اللازمة لمتابعة الأزمة، على غرار باقي الدول، بل تترك العمال لمصيرهم ولقمة سائغة بفم المؤسسات”. ويضيف المصدر: “بالرغم من أنّ بعض الموظفين الكبار في وزارة العمل تحدّثوا إلى الوزيرة ولفتوا نظرها إلى ضرورة تنظيم عمليات الصرف التي تحصل ورعاية عمال لبنان، إلا أنّها تهرّبت من مسؤولياتها، وقالت: هذا شأن مجلس الوزراء ولا أريد الدخول بالتفاصيل”.
ويغمز المصدر هنا إلى “تلهّي الوزيرة لميا يمين بتعيينات مصرف لبنان وترك عمليات الصرف التعسفي من دون تنظيم أو توجيه وأيّ رعاية من الدولة”. ويقول إنّها لم تحضر حتّى آخر جلسة لمجلس الوزراء كأنّ حياة العمال وردية وحقوقهم مصانة، بينما هي تستلم ثاني أكثر وزارة معنيّة بالأزمة بعد وزارة الصحّة”.
ودعا المصدر وزارة العمل إلى “التدخّل السريع والالتفات لشؤون الموظفين في ظلّ الحديث عن أرقام مرعبة في نسب البطالة”. وإذا كانت بطالة أميركا ارتفعت من 3,7 % إلى 15 %، فما حال لبنان الذي يسجل في الأساس وقبل أزمة كورونا أرقاماً مخيفة في البطالة؟