كانت جدتي متديّنة. شديدة الالتزام بفروضها الدينية. تلبس العباءة السوداء متى خرجت من باب البيت، ولا تقبل أن تتخلّى عن حجابها حتى في حضرتنا نحن “الحلال” عليها من أبنائها وبناتها وأحفادها. أما خالاتي وأمي، فلم يكنّ محجّبات حتى وقت متقدّم من أعمارهنّ. بقين سافرات وبقيت جدتي تحاول أن تدفع باتجاه أن تلبسن الحجاب كي لا تدخلن النار. لكنها في النهاية استسلمت وتحلّت بشيء من التسامح على قاعدة “لا تهدي من أحببت، إن الله يهدي من يشاء”.
مع ذلك، بقيت تحاول ان تقوّم بقدر استطاعتها باللسان حيناً وباليد والشحّاطة (مع قدر كبير من المزاح اللطيف) أحياناً أخرى. ولا أذكر خالاتي إلا وهنّ يتحايلن على جدتي متى أردن الخروج بملابس لا تراعي معاييرها للاحتشام. فالتنانير القصيرة والقمصان المكشوفة كانت تثير حفيظتها. وكنّ، خالاتي وأمي، يراعين ذلك عبر لبس جاكيتات يمكن التخلّص منها متى غادرن البيت. لم تكن جدتي مسيّسة ولا تقرب من السياسة إلا بالمسافة نفسها الذي تحرص عليه مع الخمر وسواها من المحرّمات. بل قل كانت تكره السياسة، ومع ذلك كان تشدّدها مستنداً إلى ثقافة جنوبية دينية تتجاوز الأحزاب المسيطرة حالياً وتلك التي كانت مسيطرة سابقاً. وهذا شأن يلتبس على كثيرين حتى في مقاربة المسألة الإيرانية، فالتشيّع والتشدّد الديني كانا حاضرين في إيران الشاه قبل الثورة التي قادها الإمام الخميني. لكن التشدّد الديني مسنوداً بتشدّد سياسي يضع الدين في خدمة السياسة، ويستغل شيطان تفاصيلها في البازار السياسي العام.
لا مهرب للطرفين في لبنان من هذا “التعايش” المحكوم بهذا النوع من التحايل والتصادم والتهادن. تماماً كما كانت الحال بين جدتي وبناتها
فليس بريئاً أن يخرج النقاش حول سيدة تسبح في نهر عربصاليم إلى الحيّز العام بعد الاشتباك السياسي الحادّ الذي انحدر إلى توتّر طائفي، وقذف بالمطالب المعيشية والاقتصادية إلى الخلف. هو شيء من الاعتراض الذي لا يراد منه التقويم بقدر ما يراد له أن يحرف السبّاحين في نهر الانتفاضة عن السباحة عكس التيار ودفعهم إلى التماهي مع السائد في السياسة والدين والاجتماع والاقتصاد. ولا يجب أن يُفهم من هذا الكلام أن الضجة المثارة حول القضية مشبوهة، بل بالعكس، فإن تصريح مسؤول حركة “أمل” في عربصاليم عبر فايسبوك يشبه هتاف “شيعة شيعة شيعة” في خضمّ أزمة اقتصادية تعرّي جميع اللبنانيين. اختار الرجل لحظة حسّاسة ليطلق آراء راديكالية تطال الحريات الفردية وحرية المرأة ووظيفة الحيّز العام، في خلط للأولويات بما يُبعد النقاش الاقتصادي عن المقدّمة ويرمي به بعيداً، ويعيد الجميع إلى المربّع الأول، والسؤال- الرحم: أيّ لبنان نريد؟ هذا مثله كمثل الحديث عن مؤتمر تأسيسي وإعادة البحث في اتفاق الطائف، والحديث عن انتخابات نيابية مبكرة. ويأتي كلّ ذلك بعدما خسرت ورقة فيروس كورونا مفعولها بيد السلطة.
هذا أشبه بتحايل خالاتي على المرحومة جدتي، لحرف أنظارها عن ملابسهنّ بجاكيتات تتخلّين عنها بمجرّد خروجهنّ من المنزل، فيما الطرفان يعلمان أن لا قدرة لهذا على فرض إيقاعه ولا لذاك. فلا جدتي كانت قادرة بكلّ سلطتها أن تفرض تحجيب خالاتي أو إلباسهنّ العباءة، ولا كنّ هنّ قادرات على تجاوزها ولبس ما يحلو لهنّ. وفي النهاية خارج مساحة “التعايش” بين الطرفين، كان كلٌّ منهما يفعل في النهاية ما يحلو له، فيما لا يتصاعد النقاش حول الموضوع هذا أو تتوتّر الأجواء إلا حينما يكون هناك مسألة أخرى تزعج جدتي، ولا تردّ خالاتي بهذا الموضوع إلا حينما تشعرن بغبن متعلّق بمسائل أخرى، فيصبح مادة للتصادم. يغيب النقاش ويعود تبعاً للحاجة إلى التصادم أو التقارب في مسائل أخرى.
لا مهرب للطرفين في لبنان من هذا “التعايش” المحكوم بهذا النوع من التحايل والتصادم والتهادن. تماماً كما كانت الحال بين جدتي وبناتها. هذا قَدَر. وكلا الطرفين في لبنان يحاول أن يعاند مجرى النهر في محاولة لتغيير مساره لصالحه. وللأسف في ظلّ هذا الكباش الطويل، تجفّ رويداً رويداً ساقية الحريات.
*الخرخار: نهر يمر في بلدة عربصاليم (جنوب لبنان) والتابعة عقارياً لمحافظة النبطية. وهو النهر الثاني بعد نهر السيد الذي يمرّ أيضاً في القرية. وهما متفرّعان من نهر الزهراني وينبعان من نبع الطاسة.