لا بدّ من نبيه برّي ولو طال السفر. مهما طالت الطرقات وتفرّعت، لا يمكن لحزب الله أن ينجو من سراديب الشؤون اللبنانية بدون رئيس مجلس النواب نبيه برّي. عند اشتداد المعارك السياسية وارتفاع التصعيد الداخلي، تبرز أوجه الاختلاف بين برّي وحزب الله، إذ يكون الحزب ميّالاً أكثر إلى التيار الوطني الحرّ وجبران باسيل، فيخوضان عنه المعارك ضد الخصوم. لكن في لحظات الاستحقاقات المصيرية، يعود الحزب إلى توأمه في الطائفة، الذي لا بدّ منه، ولا بدّ لدرايته وهندساته في ترتيب البيت السياسي. يبقى الغطاء الذي يوفّره برّي دولتياً، مؤسساتياً، وسياسياً عابراً لكلّ الطوائف والقوى على اختلافاتها، أهم بكثير لحزب الله من الغطاء المسيحي الذي يوفّره التيار الوطني الحرّ.
حزب الله المهتمّ بالاستراتيجيا والهموم الخارجية، غالباً ما يخطئ في تقديراته السياسية المحلية. أخطاء كادت تكلّف كثيراً بما يرتبط بعلاقته بحركة أمل وداخل البيئة الشيعية، تسلّلت منها رغبات عونية جامحة تظنّ أنّها قادرة على تطويق برّي وتطويعه، لكنها كلها باءت بالفشل.
إقرأ أيضاً: ماذا سمع نصرالله من رياشي عن الفيدرالية؟
خاض برّي في السنوات الأخيرة جهاده الأكبر وانتصر حتى الآن، انتصر لنفسه، ولحلفاء أساسيين أبرزهم وليد جنبلاط وسليمان فرنجية. إقليمياً، تتغيّر قواعد اللعبة. الضغط المستمر على إيران وحزب الله ينعكس بشكل مباشر على لبنان، فيعود حزب الله إلى جلباب نبيه برّي، وقد برزت مؤشرات كثيرة على تلك العودة “المحمودة” من زيارتين قام بهما باسيل إلى عين التينة، وزيارتين قام بهما حسان دياب إلى الموقع نفسه.
الزيارتان نتاج واضح لتمكّن برّي من إبقاء كلّ خيوط اللعبة بين يديه. وصل حزب الله إلى موقع خانق في الدولة وعلاقته فيها. مساعيه التي كُشف عنها بعد الانتخابات النيابية بأنّه يريد الدخول بشكل مباشر إلى الإدارة المحلية والداخلية ومؤسسات الدولة، على قاعدة المناصفة مع حركة أمل، بدأت تتراجع بفعل الضغوط، كلّ المعطيات تفيد بأن برّي استعاد دوره كاملاً وبتفويض متجدّد من قبل حزب الله. القرار اتُّخذ، وبدأت تلاويحه تظهر مما سلف، ومما سيأتي فيما بعد، كما كان برّي يتولّى ملف المفاوضات مع الأميركيين بشأن ترسيم الحدود، سيتولّى بنفسه دوزنة الوضع الحكومي، والعلاقة مع حاكم مصرف لبنان، واللقاءات مع جمعية المصارف بشأن الخطّة الاقتصادية، وغيرها من اليوميات اللبنانية التي لا يجيدها أحد غير برّي حافظ معابرها وحدودها عن ظهر قلب.
الصورة الجديدة نتاج لاتصالات متعدّدة بين الحزب والحركة، حتّى إنّ معلومات “أساس” تفيد بأنّ لقاءً عُقد بين رئيس حركة “أمل” والأمين العام لحزب الله في إحدى ليالي رمضان، وقد طرحت خلال ساعاته الطويلة مواضيع كثيرة محلية واستراتيجية في أعقاب التطوّرات الحاصلة خارجياً. إذ يعرف الطرفان أنّ الضغط سيتزايد في الأيام المقبلة، وبالتالي لا بدّ من تقديم تنازلات كثيرة: العمليات الإسرائيلية في سوريا تتوسّع، ولم تعد محصورة في الجنوب، بل تصل إلى حلب والشمال السوري، وتمتدّ إلى الشرق. حتّى إنّ بعض المعطيات تفيد بأن الاتفاق الأميركي الروسي وصل إلى حدّ السماح للإسرائيليين بتنفيذ عمليات عسكرية داخل الأراضي العراقية، ما يعني أنّ استهداف إيران سيطال مناطق ما بعد شرق الفرات، وكأن هناك رسماً لمناطق التراجع الإيراني.
الرسالة تنطوي على عتب كبير من حزب الله على التيار الوطني الحرّ، وسط معلومات لـ”أساس” تفيد بأنّ العلاقة ليست على ما يرام وقابلة للتفجّر أكثر فأكثر، إذا ما استمرّ باسيل بسياسته الاستفزازية داخلياً وخارجياً
في اللقاء أيضاً، بحث مطوّل في تداعيات الضغوط على الساحة المحلية، في مثل هذه الأزمات، ينصت حزب الله إلى برّي، الذي يحمل دوماً وجهة نظر واضحة، بضرورة تحصين الساحة الداخلية، بعلاقات جيدة مع كلّ القوى السياسية، وخصوصاً مع السنّة الذين يجب التوقّف عن استفزازهم أكثر، لا على أبواب المحكمة الدولية، ولا في ظلّ موجة التصعيد الدولي والإقليمي. ومن نتاجات هذه الخلاصة، التراجع عن معارك سياسية ومالية كثيرة كان هناك استعداد لفتحها. إذ لا يمكن للاتفاق أن يتحصّن بدون توافق سياسي كبير، هو حتّى الآن غير متوفّر، لكن برّي سيعمل على توفيره. قد لا يصبّ بالضرورة في خانة إسقاط الحكومة، لكن على الأقل سيلجم الرؤوس الحامية، لأن لا بديل حكومياً جاهزاً بانتظار التطوّرات.
في اللقاء أيضاً، مراجعة للتكاليف الباهظة التي دفعها حزب الله جراء إطلاق يد باسيل في الداخل. وللتكاليف وجه محلي وأوجه متعدّدة إقليمياً ودولياً، ولن يكون الحزب قادراً على تحمّلها، وصولاً إلى طروحات الفيدرالية وما شابه في سبيل الابتزاز، الأمر الذي استدعى ردّاً من قبل المفتي أحمد قبلان والذي تشير المعطيات إلى أنه كان موقفاً منسّقاً، خاصّة أنّ رسالة قبلان جاءت يوم الأحد أوّل أيام العيد ليحمل إشارة موافقة حزب الله الضمنية عليه، وتلك رسالة بالغة الأهمية لدى الحزب بأنّه غير قادر على مجاراة بعض حلفائه، فلوّح بتغيير الصيغة، طالما أن الضغوط عليه استمرّت.
الرسالة تنطوي على عتب كبير من حزب الله على التيار الوطني الحرّ، وسط معلومات لـ”أساس” تفيد بأنّ العلاقة ليست على ما يرام وقابلة للتفجّر أكثر فأكثر، إذا ما استمرّ باسيل بسياسته الاستفزازية داخلياً وخارجياً. فلا بدّ للحزب من الالتقاء مع برّي على نقاط أخرى، كان أوّلها وقف الهجوم على حاكم مصرف لبنان، والتحضير مستقبلاً لاقتراح قانون انتخابي جديد في الأشهر المقبلة غير القانون الحالي، ما سيؤسّس أيضاً إلى خلاف مع التيار الوطني الحرّ.
السنة المقبلة ستكون سنة الاستحقاقات تحضيراً للانتخابات النيابية والرئاسية، التي أخذت جانباً من النقاش الذي يخلص إلى عدم الالتزام بدعم أيّ مرشح للرئاسة حالياً، مع ثبات برّي على موقفه المعروف والنهائي برفض انتخاب جبران باسيل.