المصارف خسرت 25 مليار دولار من ودائعها في 10 أشهر

مدة القراءة 6 د


أصدر أخيراً مصرف لبنان ميزانيّات المصارف المجمّعة لغاية نهاية شهر نيسان الماضي. وقد عكست بوضوح آثار الانهيار المالي الذي يضرب البلاد، إذ أظهرت أنّ المصارف خسرت خلال شهر نيسان وحده ما يقارب 2.1 مليار دولار من الودائع، ليبلغ بذلك حجم الودائع التي خسرها القطاع المصرفي في الأشهر الأربعة الأولى من السنة ما يقارب 11.3 مليار دولار. وعمليّاً، يمكن القول إنّ القطاع المصرفي قد سجّل منذ شهر آب من العام الماضي ولغاية شهر نيسان، أي خلال 10 أشهر فقط، خسارة تقدّر بـ25 مليار دولار من الودائع. مع العلم أنّ الأرقام المتوفّرة تظهر أن مسار الانحدارات الشهريّة المتتالية لحجم الودائع الموجودة في القطاع المصرفي اللبناني بدأ تحديداً منذ شهر آب من العام الماضي.

لا يمكن النظر إلى هذه الأرقام دون إلى الإلتفات إلى أثرها البالغ في بنية القطاع وميزانيّاته. فخسارة 25 مليار دولار في 10 أشهر تعني عمليّاً خسارة 15% تقريباً من حجم الودائع الموجودة في القطاع المصرفي، التي كانت تتجاوز قيمتها في شهر آب مستوى 172.5 مليار دولار. وبعد هذا الانحدار القاسي، وصل إلى 147.5 مليار دولار فقط.

إقرأ أيضاً: رهانات هشّة: الدولة تتحدّى علم الاقتصاد في معالجة سعر الصرف

هذه الأرقام تحسم السجال الذي دار خلال الفترة الماضية بين رئيس الحكومة وبين المصرف المركزي، حول حجم الأموال التي خرجت من البلاد أو تمّ سحبها نقداً من النظام المصرفي. فالانخفاض الحاصل في حجم الودائع يمثّل مجموع الأموال التي خرجت من الودائع المصرفيّة إلى ثلاثة وجهات: تسديد القروض المتوجّبة في النظام المصرفي نفسه، والتحويلات الماليّة إلى الخارج، بالإضافة إلى السحوبات النقديّة بالليرة والعملات الأجنبيّة. وباختصار، سنتمكّن من تحديد حجم الأموال التي جرى تحويلها إلى الخارج أو سحبها نقداً، بمجرّد احتساب الانخفاض في حجم الودائع مع استثناء الأموال التي ذهبت لسداد القروض داخل النظام المصرفي.

وبمراجعة الأرقام التي تعرضها الميزانيّات المجمّعة، سيتبيّن لنا أنّ حجم الانخفاض في القروض الممنوحة داخل المصارف، أي حجم القروض التي جرى تسديدها، بلغ 1.1 مليار دولار في شهر نيسان، و5.9 مليار دولار خلال الأشهر الأربعة الأولى من العام الحالي، و11.3 مليار دولار بين آب من العام الماضي ونهاية شهر نيسان.

وبذلك، يمكن الإستنتاج سريعاً أن حجم الأموال التي خرجت من البلاد أو سُحبت نقداً من النظام المصرفي بلغت مليار دولار في شهر نيسان، و5.4 مليار دولار خلال الأشهر الأربعة الأولى من العام، و13.7 مليار دولار بين شهر آب 2019 ونهاية شهر نيسان 2020.

في السجال الذي دار خلال فترة من الفترات بين حاكم مصرف لبنان ورئيس الحكومة، قدّر حسّان دياب “الأموال التي خرجت من المصارف” خلال أوّل شهرين من السنة بـ5.7 مليار دولار. وفي ذلك الوقت حاول دياب الإيحاء بعبارته الملغومة هذه بأنّ هذا الرقم يعبّر عن حجم الأموال التي جرى تهريبها من المصارف عبر تحويلها إلى خارج البلاد أو سحبها نقداً، كما تعاملت الكثير من وسائل الإعلام مع هذا الرقم على هذا النحو. لم يوضح دياب لاحقاً ما أعلنه ولا اعتذر عن عدم دقة الرقم لأنّه بهذا يطال المستشارين الذين زوّدوه بالأرقام والعاطلين عن العمل حسب تعبير جمعية المصارف.

اليوم، تُبيّن الأرقام عدم واقعيّة ما حاول دياب الإشارة إليه، فما “خرج من المصارف” من تحويلات للخارج وسحوبات نقديّة لم يتجاوز مستوى 5.4 مليار دولار خلال الأشهر الأربعة الأولى من العام، وهو ما يعني استحالة أن يصل هذا الرقم إلى مستوى الـ5.7 مليار دولار في أوّل شهرين من السنة. وعليه، يُثبت هذا الأمر صحّة ردّ حاكم المصرف المركزي على هذا الكلام، الذي أشار إلى أن هذا الرقم يتضمّن القروض التي جرى سدادها داخل المصارف نفسها. وباختصار، يمثّل الرقم الذي أشار إليه دياب انخفاضاً في الودائع خسره النظام المصرفي، وهذه مسألة ستؤثّر حكماً في حجم ميزانيّات القطاع، لكنّ هذا الرقم لا يعبّر بدقّة عن النزيف في السيولة الناتج عن التحويلات والسحوبات كما حاول أن يوحي دياب، وهذه هفوة كبيرة يُفترض أن يتحمّل مسؤوليّتها المستشارون الذين زجّوا بهذا الرقم في خطاب رئيس الحكومة الحسّاس.

ثمّة المزيد من المسائل المثيرة للاهتمام التي تكشف عنها الميزانيّات المصرفيّة المجمّعة الحديثة. فنسبة الودائع بالدولار داخل المصارف ارتفعت لتبلغ في نهاية شهر نيسان حدود 79%، في مقابل مستويات قاربت 73% في تشرين الأوّل 2019. وهذا الرقم يمثّل نسبة الودائع المقوّمة بالدولار الأميركي من إجمالي الودائع. أمّا نسبة القروض التي أعطتها المصارف بالدولار، فقد انخفضت لتبلغ حدود 65% فقط، بعد أن تجاوزت مستوى 73% في تشرين الأوّل 2019. ويمثّل هذا الرقم نسبة القروض الممنوحة حاليّاً بالدولار الأميركي من إجمالي القروض الممنوحة لدى المصارف. وهذا يعني أنّ هناك 8% من المقترضين بالدولار، قد سدّدوا قروضهم وأقفلوها.

تطول لائحة الملاحظات والاستنتاجات في ميزانيّات القطاع المصرفي، لكنّ الأكيد أن جميع العوامل الضاغطة على المصارف، يمكن تقفّي أثرها في كلّ تفصيل من تفاصيل هذه الميزانيّات، كما يمكن حكماً ملاحظة عمق الأزمة الماليّة من خلال المؤشرات المختلفة التي تعرضها

يعبّر الرقمان عن اتجاهين واضحين لدى عملاء المصرف، يتمثّلان بمحاولة المودعين التخلّص من الودائع بالليرة اللبنانيّة لتفادي خسارة قيمة الودائع بفعل انخفاض سعر صرف الليرة المستمرّ، في مقابل محاولة المقترضين التخلّص من قروضهم بالدولار الأميركي لتفادي ارتفاع قيمتها بالتزامن مع ارتفاع سعر صرف الدولار.

لكنّ الاتجاهين سيمثّلان عاملي ضاغط على المصارف، من خلال ارتفاع تدريجي في نسبة التزاماتها بالدولار الأميركي، في مقابل انخفاض تدريجي في نسبة القروض التي منحتها للزبائن بالدولار، والتي تُصنّف في خانة الموجودات داخل الميزانيّة. والفارق بين الموجودات والودائع بالدولار، يمثّل عمليّاً ما يُعرف بـ”انكشاف المصارف على العملة الأجنبيّة”، ويُعدّ من العوامل الضاغطة غير المحبّذة في عالم المصارف.

تطول لائحة الملاحظات والاستنتاجات في ميزانيّات القطاع المصرفي، لكنّ الأكيد أن جميع العوامل الضاغطة على المصارف، يمكن تقفّي أثرها في كلّ تفصيل من تفاصيل هذه الميزانيّات، كما يمكن حكماً ملاحظة عمق الأزمة الماليّة من خلال المؤشرات المختلفة التي تعرضها. ولذلك، إذا أراد اللبنانيون تلمّس مستقبل الأزمات الماليّة والنقديّة في البلاد، فسيكون عليهم حكماً أن يتابعوا بعناية التطوّرات التي تعرضها هذه الميزانيّات.

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…