وزيرة العدل ماري كلود نجم، المتخبّطة في حائط التشكيلات القضائية، منذ أن أنجز مجلس القضاء الأعلى التشكيلات في 5 آذار الماضي، وأحالها إليها لتوقيعها، يمكن لقارئ مواقفها أن يدرك بسهولة أن شيئاً ما ليس على ما يرام في كواليس كل هذه المواقف.
فمع وزيرة يفترض أنّها آتية من خلفية مدنية “ثورية”، كما قيل عند تسميتها في التشكيلة الحكومية، ظنّ كثيرون أنّ تعيينها على رأس وزارة العدل، بالتزامن مع وجود القاضي سهيل عبود على رأس مجلس القضاء الأعلى، وانتخاب المحامي ملحم خلف نقيباً لمحامي بيروت، أن لبنان ربح “لوتو قضائي” سيعوّض عليه سنين العدل العجاف.
لكنّ بعض الظنّ “خيبة”. والوزيرة التي قبل أن توضع التشكيلات على نار حمّى التدخّلات السياسية، كانت لا توفّر فرصة لإظهار الثقة الكاملة بمجلس القضاء الأعلى، وجّهت البارودة إلى غير مكانها، وأطلقت رصاصها في حلبات الصراع الإعلامي على مجلس القضاء الأعلى. وكانت أولى تعليقاتها بعد ردّ التشكيلات القضائية ملاحظات ثلاث، شكّكت عبرها بالمعايير الموضوعية وتطبيقها على الجميع، وببعض الأسماء المطروحة في القضاء الجزائي من دون ذكرها، وأحيت المعيار الطائفي ومخالفة المادة 95 من الدستور. وهي ملاحظات ردّها مجلس القضاء الأعلى بالإجماع، وبشكل قانوني، وأصبحت نافذة بحكم القانون “إذ يصبح هنا وزير العدل مجبراً على توقيع المرسوم، وكذلك الأمر بالنسبة لوزيري الدفاع والمالية ورئيس مجلس الوزراء وحتّى فخامة رئيس الجمهورية، لأنّ سلطتهم هنا مقيّدة”، كما يؤكّد مصدر قضائي رفيع لـ”أساس” ويشير إلى أن “كلّ من تقف عنده التشكيلات ولا يوقّعها، يرتكب بذلك خلل الاستهتار بواجباته الوظيفية ويُلاحق عليها”.
إقرأ أيضاً: وزيرة العدل تجمع ما “قسّمته”.. وعون لن يوقّع التشكيلات
وزيرة العدل، التائهة بين ماضيها النضالي وحاضرها الوزاري، لم يَرُقْ لها عدم الأخذ بملاحظاتها، وقرّرت أن “تلعب الغمّيضة” كما يؤكّد المرجع نفسه، وقامت “ببدعة قضائية، تحصل للمرة الأولى في تاريخ لبنان لعرقلة التشكيلات”، وهي تجزئة المرسوم إلى مرسومين، تشكيلات مدنية قامت بتوقيعها، وعسكرية قامت بإحالتها إلى وزيرة الدفاع بحجة المادة 13 من القضاء العسكري، بحسب تصريحاتها.
ويشير المرجع الرسمي القضائي الرفيع هنا إلى مخالفة قانونية ارتكبتها الوزيرة علماً أنّها تعرفها جيداً، ويوضح لـ”أساس”: “لدينا قانون قضاء عسكري صادر في الستينيات يقول إنّ أسماء قضاة المحكمة العسكرية يقترحها وزير الدفاع بالتشاور مع وزير العدل. لكن بعد مرور 30 سنة جاء قانون تنظيم القضاء العدلي، فنصّ في المادة 5 منه على أنّ المسؤول عن التشكيلات المتعلّقة بكلّ القضاة العدليين هو حصراً مجلس القضاء الأعلى. وقال في آخر مادة منه إنّ القانون نفسه يلغي كلّ نص مخالف، ما يعني أنّ نصّ قانون القضاء العسكري تمّ إلغاؤه بموجب هذا القانون”.
وبعد “بدعة التجزيء”، أرسلت المرسوم منقوصاً “دون وجه قانوني” إلى المجلس “كونها أبدت ملاحظاتها وانتهت صلاحيتها هنا”. وبدورها، عالجت وزيرة الدفاع زينة عكر الموضوع بذكاء، وطالبت بتقليص عدد القضاة المشكّلين إلى ملاكها من 16 إلى 12، وهو العدد الذي اعتمده مجلس القضاء تبعاً للمراسيم السابقة المطالبة بعدد إضافي نسبةً للحاجة، وطلب الوزراء أنفسهم. وعليه، أعاد المجلس هؤلاء القضاة الأربعة إلى القضاء العدلي، وأعاد التشكيلات إلى وزيرة العدل.
يعلّق المرجع القضائي الرفيع هنا ممازحاً: “وهون خلص “….” متل ما بقولوا عنّا بالضيعة” وأعادوا إليها التشكيلات لتوقيع المرسوم، مع ملحق يشمل تعديلات طرأت لملء الشغور الحاصل بسبب تقاعد بعض القضاة بين فترة إنجاز التشكيلات “والبرحشة بهدف العرقلة” وصولاً إلى شهر حزيران. لكن عادت الوزيرة وأطلّت إعلامياً مع إصرارها على التصويب على مجلس القضاء الأعلى، وقالت في مقابلة تلفزيونية لها الأحد الماضي: “قيل لي إنّ دوري هو أن أعطي رأيي في المرشحين المسيحيين المارونيين فقط في ما يخصّ التعيينات، ولن أقبل بهذا الأمر إطلاقاً. واذا كان المرشّحون غير كفوئين سوف أتصدّى لهذا الأمر”. وأضافت ليلتها: “إن لم تأتِ التعيينات بأشخاص أصحاب كفاءة ولديهم شخصية تناسب الموقع الذي سيتبوّؤونه، فأنا سأتصدّى لهذا الموضوع”. وطالبت بـ”تحييد ملف التشكيلات عن التجاذبات السياسية والإعلام”، بينما هي التي حملت السلاح الإعلامي مراراً لاستهداف التشكيلات، وقالت إنّها ستوقع عليها في نهاية المطاف، بطريقة توحي بأنها مرغمة على ذلك عبر استخدامها لمصطلح “سلطتي مقيّدة”.
الوزيرة تلطّت بالمواقف البطولية ومحاربة الفساد، ولعبت على بعض المصطلحات القانونية، لتلبية رغبات سياسية قرّرت عرقلة التشكيلات بعدما تبيّن أنّ فيها تقطيع رؤوس وتحطيم جزر سياسية في القضاء اللبناني
كلّ أو معظم من سمع جملة “سلطتي مقيّدة” من معاليها ظنّ أن التقييد ظرفي يخدم التصويب على “مجلس القضاء الأعلى” ويبرئها من ثوب الخضوع للتدخلات السياسية، علماً أن هذا التوصيف قانوني، ويعني بحسب المرجع القضائي أنّ “القانون يميّز بين سلطتين: استنسابية يعنى بها مجلس الوزراء الذي له أن يرشّح أسماءه من دون أن يُلزم بها مجلس القضاء الأعلى، والسلطة المقيّدة وهي حصراً بيد مجلس القضاء الذي له أن يختار التشكيلات وتصبح نافذة بحكم القانون بمجرّد التصويت عليها بأكثرية 7 على 10 أو بالإجماع”.
وأعلنت وزيرة العدل في اليوم التالي، في الأول من حزيران، عبر مكتبها الإعلامي أنها وجّهت إلى رئاسة مجلس الوزراء كتاباً تطلب بموجبه “استعادة مشروع المرسوم ليصار إلى تنظيم مشروع جديد يتضمّن التعديل الذي أجراه مجلس القضاء الأعلى”، وهو التصريح الذي استبقته قبل 3 أيام، وخلال مشاركتها في الجلسة التشريعية برئاسة رئيس مجلس النواب نبيه بري، في قصر الأونيسكو، بالقول إنّ مجلس القضاء العدلي رفَع لها ملحقًا للتشكيلات القضائية، وأنّها أحالته على الأمانة العامة لمجلس الوزراء، وصولاً لإعلانها توقيع المرسوم “بالرغم من ملاحظاتي التي أتمسّك بها، والآن أهم من التشكيلات القضائية هو قانون استقلالية القضاء”. كلامها الأخير كان في الأول من حزيران الجاري، الذي استبقته بساعات أيضاً تغريدة تقول فيها: “أيّ اسم عليه أيّ غبرة لا يجب تعيينه”.
كأيّ لبناني، غير مطلع على تفاصيل التشكيلات، قد تقف حائراً أيّها القارىء من كلّ ما سبق، بل وعاجزاً عن الحكم، بين المواقف “البطولية” للوزيرة، وبين تشكيلات أصبحت نافذة، ويساورك الشك حول نظافة التشكيلات ونزاهة مجلس القضاء.
لكن يكشف المرجع القضائي الأسباب وراء تبدّل مواقف الوزيرة نجم من مجلس القضاء في فترة زمنية قصيرة، ويؤكّد أن “الوزيرة تلطّت بالمواقف البطولية ومحاربة الفساد، ولعبت على بعض المصطلحات القانونية، لتلبية رغبات سياسية قرّرت عرقلة التشكيلات بعدما تبيّن أنّ فيها تقطيع رؤوس وتحطيم جزر سياسية في القضاء اللبناني”. ويؤكد أنّ الوزيرة خيّبت آمال كثيرين بهذه المواقف، لا سيما أنّها تدرّس القانون وتعرف جيداً القوانين التي تتخطّاها.
أخيراً ومنذ يومين وقّع رئيس الحكومة مرسوم التشكيلات بعد وزراء العدل والدفاع والمالية وسيرسله يوم الأثنين الى القصر الجمهوري . لا شك أن الممارسات المتناقضة أفقدت وزيرة العدل نجوميتها . أما ما سيشهده المرسوم في القصر الجمهوري فسيجعلنا ننسى بدايات المرسوم وننتقل إلى مسلسل “لن أوقّع” .