من المفترض أن تنهي شركات الصيرفة إضرابها المفتوح صباح اليوم. وبحسب مصادر عديدة مطّلعة، علم “أساس” أنّ تفاهمات نقابة الصرّافين مع رئيس الحكومة حسّان دياب في الاجتماع الخير بين الطرفين، أفضت إلى معاودة شركات الصيرفة العمل وفقاً لسعر السوق الفعلي في المرحلة الأولى، والذي يتذبذب عند مستويات تتجاوز الـ4100 ليرة للدولار، وليس سعر الصرف المحدّد من مصرف لبنان كحدّ أقصى لتداولات الصرّافين، وهو 3200 ليرة للدولار.
الحجّة أنّ شركات الصيرفة جمعت مخزوناً ضخماً من الدولارات خلال المرحلة الماضية بأسعار مرتفعة، وخفض السعر فوراً سيكبّدها خسائر ضخمة لا تستطيع تحمّلها، على أنّ تخفّض السعر بشكل تدريجي خلال المرحلة المقبلة، وفقاً لتفاهمها مع دياب، أملاً في الوصول إلى السعر الذي حدّده حاكم مصرف لبنان، والذي ستعتمده، منصّة مصرف لبنان، التي ستوفّر الدولارات لاستيراد “السلع الأساسيّة”. “المنصّة” التي ستبصر النور قريباً ستلعب كذلك دور التشبيك مع شركات الصيرفة الشرعيّة، وفقاً لنظام معلوماتي يراقب تداولات السوق، ويراقب مستويات العرض والطلب بشكل يومي.
إقرأ أيضاً: من الأخطاء الكبرى على طريق “صندوق النقد”: استبعاد مصرف لبنان
إنهاء الإضراب من المقرّر أن يتزامن مع إطلاق “المنصّة”، في سياق خطّة جديدة ما زالت مليئة بالثغرات كونها ببساطة تتحدّى قوانين العرض والطلب. إذ إنّ تفاهم وفد نقابة الصرّافين مع رئيس الحكومة على خفض سعر الصرف بشكل تدريجي يراهن بشكل أساسي على تدخّل مصرف لبنان عبر “المنصّة” لتوفير الدولارات وفقاً لسعر المنصّة. عمليّة ستتمّ، بحسب تعاميم مصرف لبنان، من خلال النظام المصرفي وليس عبر شركات الصيرفة، ما يعني أنّ مصرف لبنان لن يقوم بضخّ أيّ دولارات بشكل مباشر من خلال شركات الصيرفة. لكنّ المتوقّع تخفيف ضغط الطلب على دولارات شركات الصيرفة حين يتوجّه تجّار هذه السلع إلى “المنصّة”.
ويُفترض بشركات الصيرفة أن تحصر عمليّات بيع الدولار للشركات المستوردة التي لن تستفيد من دولارات “المنصّة”، وستطلب مستندات تثبت علاقة عمليّات الصيرفة بعمليّات الاستيراد. كما ستمتنع شركات الصيرفة – بحسب الاتفاق – عن بيع الدولارات للمضاربين والمواطنين الذي يشترون الدولار لغاية تخزينه في المنازل. وبذلك، يراهن اتفاق الصيارفة مع رئاسة الحكومة على تقنين الطلب على الدولار من جهتهم، بهدف استعادة التوازن بين العرض والطلب.
وأخيراً، يراهن الاتفاق أيضاً على العامل النفسي لدى الأفراد الذين قاموا بشراء الدولار لغاية تخزينه في الفترة الماضية. فمع فتح شركات الصيرفة من جديد، وتداول الأخبار عن تدخّل مصرف لبنان والانخفاض المتوقّع في سعر الصرف، من المرتقب أن يبادر كثيرون إلى عرض الدولار للبيع لدى شركات الصيرفة للاستفادة من سعره الحالي قبل الانخفاض، وهو ما سيسهم – بحسب الخطّة الموضوعة – في دفع سعر الصرف إلى مزيد من الانخفاض بسبب ارتفاع العرض. لكنّه يبقى رهاناً غير مؤكدة نتائجه.
ستجد شركات الصيرفة نفسها بين خيارين: إما حصر نشاطها بالعمليات المشروعة وفقاً لتفاهمها مع الحكومة، وهو ما يعني تحجيم أعمالها تدريجيّاً وإما مواكبة السوق والانخراط في عمليّات الظلّ غير المشروعة، كما جرى خلال الفترة الماضية
من الواضح هنا أنّ الخطّة مليئة بالرهانات الهشّة وغير المضمونة. فمن يضمن أن يثق “المخزّنون” بأنّ سعر الصرف انخفض “فعلاً”، ولن يرتفع سريعاً وقريباً وفجأةً؟ فجميع التجارب السابقة أثبتت صعوبة ضبط هذا السوق، بسبب تفشّي ظاهرة الصرّافين غير الشرعيين، وصعوبة حصر نشاطهم من خلال الأدوات الأمنيّة التقليديّة. كما أنّ شريحة واسعة من شركات الصيرفة الشرعيّة والكبيرة تمارس أنشطة الصيرفة في الظلّ، بعيداً عن عيون الرقابة، من خلال تعاملاتها الجانبيّة مع عملائها المعروفين والموثوقين. وحتّى في حال أرادت شركات الصيرفة التعاون وفقاً للتفاهم الجديد، فالمسألة ستحتاج إلى خبرة تقنيّة غير متوفّرة حاليّاً لمراقبة غاية عمليّات شراء الدولار، والتأكد من عدم وجود تلاعب في المستندات بهدف تضخيم عمليّات الشراء.
في كلّ الحالات، وحتّى إذا تحقّق كلّ هذا الالتزام من جانب شركات الصيرفة، فالتحدّي الأكبر سيكون في خطر استمرار حالة عدم التوازن بين العرض والطلب. فعمليّة حصر عمليات بيع الدولار المشروعة بالشركات المستوردة فقط، ستعني توجّه جزء كبير من الطلب إلى السوق السوداء غير الشرعيّة، أو غير المشمولة بهذا التفاهم، للحصول على الدولارات، ما قد يؤدّي إلى خلق سعر صرف جديد، ومرتفع، وجانبي. وبذلك، ستتجه عمليّات بيع الدولار تدريجيّاً إلى السوق السوداء الخارجة عن السيطرة مجدّداً، وسيتحجّم نطاق العمليّات المشروعة التي تتمّ وفقاً للتفاهم هذا.
ببساطة، ستجد شركات الصيرفة نفسها بين خيارين: إما حصر نشاطها بالعمليات المشروعة وفقاً لتفاهمها مع الحكومة، وهو ما يعني تحجيم أعمالها تدريجيّاً وإما مواكبة السوق والانخراط في عمليّات الظلّ غير المشروعة، كما جرى خلال الفترة الماضية.
باختصار، كلّ جهود الحكومة ومصرف لبنان ما زالت تتركّز على مواجهة توازنات العرض والطلب، إما عبر تقليم أظافر شركات الصيرفة كما جرى سابقاً، وإما عبر التفاهم معهم على حلول غير واقعيّة كما يجري اليوم. وحتّى خيار مصرف لبنان الذي لجأ إلى “المنصّة” لبيع الدولار المدعوم لاستيراد السلع الأساسيّة، سيواجه مخاطر عمليّات الاحتيال التي ستهدف إلى التلاعب لتضخيم عمليات شراء الدولار المدعوم وتهريبه إلى الخارج، أو تهريب سلع مدعومة إلى سوريا (أبرزها المازوت والطحين) للحصول على الدولار “الطازج” كما يجري اليوم في قطاع المحروقات. وببساطة أكثر، طالما أنّ لبنان لم يعالج مكمن المشكلة الأساسيّة، أي شحّ الدولار، فستكون كلّ الحلول والخطط مجرّد معالجات مليئة بالثغرات.