الفدراليّة في لبنان كلمة مشفّرة يُعنى بها “المسيحيّون”. تارة حين يشهر مسيحيّون هذه الورقة، “نحن مسيحيّون، والفدرالية هويّتنا الاحتياطية”، وتارة حين تُشهر في وجههم، بحجّة أنّ مسيحيّاً هنا أو هناك استأنف القول بها: “أنتم مسيحيّون، والفدرالية تهمة واقعة فيكم بمنزلة الهوية”.
أساساً، ليس من المفترض أن تكون الفدرالية تهمة، ولا أن تكون الفدرالية هوية احتياطية. بيدَ أنّها كذلك في الواقع اللبناني، وليس هناك في الأفق ما يوحي بأنّها لن تعود كذلك. ليسَ هناك ما يوحي أنّها يمكن أن تسحب نهائياً من التداول، ولا أن تدخل في التداول من بابها العريض. هي كذلك الفدرالية، منذ طرحها في أيّام الحرب إلى اليوم. لا تكاد تدخل إلى حلبة السجال حتى تضيع فيه وتفلت منه. ونحتاج كلّ مرة إلى بضعة سنوات كي تزورنا شمّاعتها مرة جديدة. مع هذا، تحضر “مساجلة الفدرالية” بشكل مختلف هذه المرّة عن زياراتها السابقة، في ظلّ وضعية الانهيار الاقتصادي المالي، بل الاقتصادي الاجتماعي، الحاصلة، واستفحال موميائية النظام السياسيّ القائم، وبشكل أساسي في ظلّ دخول “التواشج الشيعي المسيحيّ”، المستظلّ بمرجعية تفاهم 6 شباط 2006، مرحلة من المطبّات الهوائيّة التي من المبكر بعد فصل القول حول ما يمكن أن تفضي إليه.
إقرأ أيضاً: الفيدرالية: رياشي والحلبي وبهاء … وتركيا وقطر… أبو حبيب: عنوان الفوضى الهدّامة
مع هذا، ما يمكن المجازفة فيه منذ الآن، هو أنّ تركيب البلد على معادلة “شيعية مسيحية” مشتركة لم يوفّر ولا يمكنه أن يوفّر الأسس الفعلية للتعويض عن اثنتين: أولاهما عدم قدرة “حزب الله” على الانتقال من حال التغلّب إلى حال الغلبة الشاملة أو “الهيمنة” الكاملة. وثانيهما عدم قدرة العونيين والمسيحيين عموماً على العودة بعقارب الساعة إلى زمن “الجمهورية الأولى”، من خلال الاستفادة من الانقسام الإسلامي السني – الشيعي الحاصل، ومن ضعف القيادة السياسية السنّية في مقابل قوة الزعامة الشيعية، ومن تكبيل هذه القوّة بالحصار الغربي والنظامي العربي عليها الذي يجعلها تحتاج إلى واجهة مختلفة عنها، وإلى “الوسيط المسيحي” مع الغرب. لا يعني هذا أنّ العلاقة بين “حزب الله” والعونية – الباسيلية محكومة بالانهيار.
من الصعب جدّاً تخيّلها تنهار، لكنّ كلفة صيانة هذه العلاقة تزداد، والسؤال عمّن يتوجّب عليه دفع كلفة هذه الصيانة يزداد إلحاحاً هو الآخر.
راهناً، يرتبط استحضار القول بالفدرالية، مناورةً أو اتهاماً، داخل هذه الدوّامة، بمثل ما يرتبط بأفق إعادة هيكلة جهاز الدولة في الفترة المقبلة. لأنّنا ننتقل من زمن المحاصصة بين طوائف تتسابق أحزابها النافذة لإدخال ما يمكنها إدخالهم من “ذويها” إلى الوظيفة العمومية، إلى زمن المحاصصة بالمقلوب، حيث ستتصارع الطوائف على من يبقى ومن يخرج من هذه الوظيفة العمومية عندما يتقلّص حجم هذه الأخيرة. كذلك، الأزمة الحالية تفتح الباب لاحتمالات موجة هجرة لبنانية جديدة إلى الخارج، ولن يكون النزيف الديموغرافي متساوياً بين الطوائف، وحتّى لو سلّمنا جدلاً أنّه سيتساوى في الواقع، فإنّه سيكون متفاوتاً للغاية في المخيّلة ومرآة الهواجس.
مفارقة طرح مسألة الفدرالية في لبنان أنّ الدولة المركزية أكثر حضوراً في مناطق “المنحسر المسيحي” منه، والهوى الفدرالي أكثر حضوراً في مناطق المسيحيين في الوقت نفسه. أما الأنتي فدرالية، في الجانب الإسلامي، فإنّها ترتكز في المقابل على واقع فدرالي متفاوت، ولو جرت المكابرة عليه. في المقابل، هناك تفاوت فعلي بين معطيات الجغرافيا السكانية، التي تظهر تواصلاً جغرافياً بين الكتلة السكانية الأكبر عند المسيحيين، من زغرتا إلى بعبدا، وبين الطابع “الجزيري” للكثافة السكانية السنية أو الشيعية، غير المتصلة جغرافياً ببعضها البعض. كلّ واحدة من هذه المعطيات تغذّي فكرة الفدرالية وتعيقها في الوقت نفسه حتّى الآن.
ما يعيق الفدرالية أكثر فأكثر ليس أنّ البلد صغير المساحة، بل إنّ رأس هذا البلد أكبر من حجمه
ليس صحيحاً أنّ ما يعيق واقعية الفدرالية هو صغر مساحة البلد أو نفي الاختلاف المجتمعي فيه. ما يعيقها أنّ هذه المعطيات تدفع إلى الشيء ونقيضه. من يعِش الفدرالية يكابر عليها، لكنّه لا يحبّذ عملياً فكرة الدولة المركزية. ومن يعِش في دولة مركزية يتمسّك بها ويطالب بالفدرالية. معطيات الجغرافيا السكانية (التواصل الجغرافي للكتلة السكانية المسيحية، في مقابل الانفصال الجغرافي ضمن السنة وضمن الشيعة) تقابل معطيات الديموغرافيا الطائفية (أكثرية إسلامية منقسمة مذهبياً، وأكثرية مسيحية “تمورن” حتى “الروم” فيها، أو سبقوا الموارنة في تمورنهم).
وما يعيق الفدرالية أكثر فأكثر ليس أنّ البلد صغير المساحة، بل إنّ رأس هذا البلد أكبر من حجمه. ليس فقط عاصمته، بل هذا الامتداد المديني، “مدينة المدن” الممتدة من بيروت إلى خلدة وتلال عرمون جنوباً، وإلى جونية شمالاً، والمتوغّلة جبلاً في المتنين، لم يعد حتى اصطلاح “بيروت الكبرى” قادراً على استيعابها. عندما يكون المركز الحضري متضخّماً إلى هذه الدرجة – وللعقود المقبلة سنكون أمام “مدينة مدن” تمتدّ من حلبا إلى صور عملياً – يصبح الحديث عن فدرالية أمراً دونه عوائق تكوينية أساسية. في المقابل، النقلة باتجاه اللامركزية الاجتماعية الفعلية تبقى مدخلاً أساسياً للإصلاح في البلد، وهذه باتت تفترض تفكيراً جدّياً في حلّ المشكلة التي تسبّب بها الانتداب الفرنسي، حين أقام فوق الأقضية ذات المنبت العثماني، محافظات تجمع بين مجاميع من الأقضية. إلغاء المحافظات والمحافظين والقائمقامين، وانتخاب مجالس أقضية بمقدوره أن يحدث “ثورة إدارية” فعلية في البلد، وأن يصطلح العقد الاجتماعي فيه كذلك الأمر.
إلا أن تفكيراً كهذا يتصل بالرغبة في حلّ النزاعات، في الخروج من دوّامة السجالات المتقطّعة والمكرّرة. وليس هذا ما هو مطروح حالياً. المطروح حتّى الآن يكتفي بالقول الذي يردّده كثير من الناس، بأنّ “البلد مش راكب”. البلد “مش راكب”، وأيّ محاولة لإعادة تركيبه فاقدة لشروطها ستأخذه إلى تناقضات إضافية. في الوقت نفسه، الاستغناء عن محاولات إعادة تركيبه تماماً سيدفعه أكثر فأكثر إلى الابتعاد عن كلّ سراب التماسك الاجتماعي، نحو “التحلّل المجتمعي”.