نـَظّرَ النوّابُ السنّة لقضيّة العفو العام على أنّها “قانونٌ يعبّر عن تسويةٍ سياسية بين كلّ الأطراف، لحلّ مشكلةٍ اجتماعية كبرى، وللمساعدة في الوقت نفسه على الانفراج في كثيرٍ من المناطق اللبنانية، ولتحقيق العدل للكثير من الناس الذين ظُلموا من كلّ الطوائف ومن كلّ الاتجاهات”، كما صرّح النائب نهاد المشنوق بعد مشاركته في اجتماع اللجنة النيابية المكلّفة العمل على قانون العفو العام، قبل أسبوعين.
لكن ليست هذه هي النظرة ذاتها التي حملها الشركاءُ في الوطن، إلى جلسة مجلس النواب في الأونيسكو، لأنّه كان لكلّ طرف غاية حزبية وطائفية محصورة، ولم ترتقِ المقاربات النيابية إلى المستوى الوطني. وبينما استندت الكتل إلى أوزانها وقواها السياسية، كانت الكتلة السنية مكشوفة، رغم مظاهر التشاور التي لم تُفضِ إلى نتائج.
إقرأ أيضاً: قوى السلطة تستبعد “المستقبل”: عفوٌ عام لا يشمل الإسلاميين
استطاع رئيس “التيار الوطني الحرّ” جبران باسيل استدراج الكتل المسيحية نحو الموقف الذي يتبنّاه وأراد الحصول على قانون بقياسه مع تعرية الطرف السني تحديداً من حقوقه، فإذا به يصرّح عبر “تويتر” قائلاً: “أساساً نحن مع معاقبة المجرم وضدّ العفو العام. طُرحت مقايضة مرفوضة ولا تشبهنا: العفو عن إرهابيين ومجرمين مقابل عودة لبنانيين من إسرائيل. قانون العفو عن الفارين لإسرائيل صادر أصلاً وينقصه المرسوم التطبيقي”.
رَفضُ باسيل مبدأَ العفو العام إغفال صريح للقانون، لأن مبدأ العفو منصوصٌ عنه في قانون العقوبات، وكلّ دول العالم تعتمد هذا النوع من القوانين، كما أكد النائب هادي حبيش، المنسّق بين الكتل النيابية بخصوص العفو العام.
اعترض التيارُ الوطني الحرّ على العفو العام، ولكنه بالتعاون مع رئيس الجمهورية ميشال عون يُصدر قرارات العفو الخاص عن عملاء العدو الصهيوني، وكان آخرُها العفو الخاص عن أربعة عملاء وهم: هيثم سحمراني، وإبراهيم سرور، ومحمد إسماعيل وعمر العرجة. وهناك لائحة طويلة من هؤلاء يجري تحضيرها لتستفيد من العفو الخاص المجزّأ. إضافة إلى التبييض الفعلي لملفات آلاف العملاء المقيمين في الكيان الإسرائيلي وفي الولايات المتحدة وأستراليا وأوروبا، وكان أبرزهم عامر الفاخوري.
تورّطُ “حزب الله” في القتال ضدّ الشعب السوري، وإخضاع الدولة اللبنانية بأسرها لهيمنته، يمثّل إشكاليَّةً وطنية كبرى، فهو خروجٌ على منطق الشراكة، مقابل استخدام الأمن والقضاء لملاحقة بضع عشرات من الشبّان السنّة الذين دخلوا سوريا ولم يرتكبوا أيّ جرم في لبنان.
يتساءل مصدرٌ سياسيّ متابع: “كيف يمكن تجاهل حجم الأخطاء والممارسات التي وقع فيها الأمن والقضاء، بتحويل مئات الشباب إلى “إرهابيين” وهم ليسوا كذلك (جولات طرابلس) والتفلُّت من معايير العدالة وضوابط القانون، والاستهتار بالحياة الإنسانية بالتأجيل المقصود المتواصل لجلسات المحاكمة، فضلاً عن تركيب الملفات، والإصرار على تجاهل عناصر البراءة، وعدم وجود السوابق، وعدم دراسة الملفات بالعمق المطلوب، مثل العائدين طوعاً من سوريا، في وقتٍ يخوض “حزب الله” المعارك هناك، ويخترق الحدود، ويكسر السيادة، ويغيّر وظيفة الجيش اللبناني، ويفرض تعريفه للإرهاب على الجميع…”.
يتجاهلُ العونيون ومعهم “حزب الله” هذه الحقيقة، ويركّزون على الصورة المشوّهة التي تواطأوا على تظهير السنّة بها
القضيةُ الفعلية ليست قضية العفو العام فقط، بقدر ما هي قضية العدالة والشراكة الوطنية. فكيف يمكن بكلّ صلافة، التجاوزَ عن جرائم قتل عسكريين تزيد عن مئتين، وعن جرائم توزيع سُمّ المخدِّرات على لبنان وكلّ دول العالم؟ وكيف يريد العونيون الصفح عن آلاف العملاء الذين يعيشون في كنف العدوّ، ويريدون إعادتهم، وقد نشأت أجيال منهم في دولة “إسرائيل” وتربَّوا على الانتماء إليها، ولن يكون من الآمن عودتهم بالآلاف إلى لبنان ليشكّلوا كتلة سياسيّة تخالف الإجماع اللبناني في العداء للكيان الإسرائيلي؟ وفي الوقت نفسه يريد “الباسيليون” تضييق الخناق على السنّة بذريعة “محاربة الإرهاب”؟
يتجاهلُ العونيون ومعهم “حزب الله” هذه الحقيقة، ويركّزون على الصورة المشوّهة التي تواطأوا على تظهير السنّة بها. فانقلبوا على كلّ الصيغ المطروحة لإصدار عفو يتمتّع بشيءٍ من العدالة، وعملوا على تجويفه برفض مبدأ “تخفيض الأحكام”، وطلبوا التشدُّد في الشروط المفروضة، ما يجعل “السجناء الإسلاميين” يخرجون من السجن إلى القبر بعد أن يصلوا إلى سنّ الخامسة والستين، رغم التفاوت الكبير في الأعداد بين 36 ألف مطلوب (شيعي) و7500 عميل (60% مسيحيون و40% شيعة)، بينما لا يتجاوز عدد “الإسلاميين” الثمانمائة بين سجين وموقوف، بينهم قرابة النصف تنتهي سنوات أحكامهم بعد سنتين أو ثلاث سنوات.
قضيةُ العفو العام، في مسارها الراهن، ليست سوى شكلٍ من أشكال محاربة الشراكة الوطنية والسعي لإسقاطها، وطريقةٌ جديدة لعزل واستضعاف فئة على حساب أخرى، حيث يتسلّح باسيل بعدم حاجته الفعلية للعفو العام نظراً لامتلاكه سلاح العفو الرئاسي الخاصّ. ومن هو خارج معادلة القرار في السياسة، وخارج المعادلة الوطنية، لن يكون داخلها في البرلمان.
وهذا يستدعي الإصرار على رفض العفو العام، والتمسّك بالمحاكمات السريعة والعادلة. فالمطلوب هو العدل العام في وجه “عفوٍ عام” لا يخدم سوى العمالة والإجرام والتطرّف الطائفي.