أزمة العونية: كيف تجمع “الفدرلة” و”السوق المشرقية”؟

مدة القراءة 6 د


لعلّ أهمّ خاصيّات الأزمة الاقتصادية الراهنة أنّ انعكاساتها تصيب المواطنين كلاًّ على حدة، كما أنّها تصيب الطوائف كأطر وبنى اقتصادية وسياسيّة. كأنّ هذه الأزمة، تعكس بخاصيتها تلك، ازدواجية العقد الاجتماعي والنظام السياسي، القائمة على المزاوجة بين وضعية الأفراد كمواطني الدولة اللبنانية، ووضعيتهم كمنتمين إلى طائفة بعينها. والحال هذه، يمكن القول إنّ ثمّة مستويين لهذه الأزمة: مستوى الأفراد ومستوى الطوائف، وهما مستويان منفصلان ومتّصلان في آن معاً. بمعنى أنّ الأفراد في بحثهم عن حلول لأزمتهم الاقتصادية قد ينزعون إلى تأويلها تأويلاً “تقدّميا” يحمّل “النظام الطائفي” المسؤولية عنها، أو قد يتّجهون، أو بالأحرى يُدفعون، إلى تفسيرها تفسيراً “طائفياً” فيقيمون ربطاً وثيقاً بين حلّ أزمتهم الخاصة وحلّ أزمة طائفتهم.

إقرأ أيضاً: أنطوان مسرّة عن كلمة قبلان لـ”أساس”: جهل كامل لمفهوم الميثاق

وإذا كان من المبكر تبيّن أيّ هذين المسارين سترجح كفّته على الآخر، وذلك تبعاً لتطوّرات الأزمة وانعكاساتها السياسية والاجتماعية، فإنّ الربط بين “الفردي – الخاص” و”الجماعي – الطائفي”، لطالما شكّل سمة جوهرية في السياسة اللبنانية. وقد بلغ هذا الربط أقصاه خلال السنوات الأخيرة، إذ تمّ الدمج في الخطاب والممارسة السياسيتين، وعلى نحوٍ غير مسبوق، بين حقوق ومكتسبات الطوائف في النظام السياسي، وبين حقوق ومكتسبات الأفراد في الإدارة وفي الحيّز الاقتصادي العام. وعليه، بات متعذّراً في العقل السياسي الجمعي الفصل بين هذه وتلك، لاسيّما أنّه تمّ تكريس المحاصصة السياسية الطائفية كأحد شروط حفظ النظام السياسي من التشقّق. لكن لم يطل الوقت حتى انتهى هذا المسار إلى أعمق أزمة اقتصادية واجتماعية عرفها لبنان منذ تأسيس دولته قبل مئة عام.

وإذا كانت الأزمة الراهنة قد هزّت البنى الطائفية كلّها، وهو ما يمكن الاستدلال عليه من خلال معاينة إرباكها في مواجهة المتطلّبات المعيشية والتربوية والاستشفائية لرعاياها، فإنّ المسيحيين اللبنانيين هم أكثر تلك الطوائف شعوراً بالصدمة حيال هذه الأزمة. ليس لأنّ ضررها المادي وقع عليهم أكثر من سواهم بالمطلق، بل لأنّ سرديّتهم السياسيّة طيلة السنوات الأخيرة كان محفزّها الأساسي التفاؤل بانتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية. وهو الانتخاب الذي عدّه المسيحيون، بحزبيْهم الغالبيْن على أقلّ تقدير، المدخل الضروري والوحيد إلى تعزيز موقع المسيحيين في النظام بالمعنى الواسع لكلمة نظام. الأمر الذي سيصحّح خللاً “بنيوياً” في تركيبة الحكم انعكس، طيلة سنوات ما بعد الحرب، تهميشاً للمسيحيين في التراتبية السياسية والاقتصادية للبلاد. لكنّ التفاؤل هذا سرعان ما انقلب تشاؤماً، لا سيّما مع تتالي صدور المؤشرات السياسية والاقتصادية لعمق الأزمة المسيحية من ضمن الأزمة اللبنانية العامّة.

والحال هذه، ليست عودة المسيحيين للحديث عن “تطوير” النظام السياسي، سواء لجهة دعوة الوزير جبران باسيل لتطبيق اللامركزية الإدارية والمالية الموسّعة، أو دعوة الوزير السابق ملحم الرياشي بشكل صدم كثير من عارفيه إلى تطبيق “فيدرالية جغرافية”، سوى تعبير عن مأزق السياسة المسيحية، وذلك بعد أن فشلت سرديّة “الشراكة”، بمعزل عن ظروفها الذاتية والموضوعية، في إنتاج وقائع سياسية واقتصادية يشعر معها المسيحيون أنّهم في وضع أفضل. علماً أنّ المسيحيين ما نادوا مرّة بـ”الفيدرالية” إلّا وكانت مناداتهم تلك تعبيراً عن أزمتهم في لحظة تاريخية معينة أكثر منها تعبيراً عن حلّ لها.

كذلك، ليس قليل الدلالة في السياق عينه، الكتاب المفتوح الذي وجّهته الرئيسات العامّات والرؤساء العامّون للرهبانيات في لبنان إلى الرئيس عون يُشعرونه فيه أنّ “أكثرية المدارس التابعة لرهبانياتنا (ما لا يقل عن 80 بالمئة منها) متجهة حكماً نحو الإقفال القسري نتيجة الأزمة الاقتصادية”. فالأزمة المالية غير المسبوقة التي تقع فيها المدارس الكاثوليكية، تتجاوز دلالاتها الحيّز التربوي، إذ لطالما شكّلت هذه المدارس، ومنذ بداية توافد الإرساليات إلى لبنان في نهاية القرن الثامن عشر، إحدى أهمّ نقاط قوّة المسيحيين وتمثّلات نفوذهم السياسي والرمزي على امتداد الجغرافيا اللبنانية.

أضف إلى ذلك أنّ طبيعة الأزمة الراهنة وشعور المسيحيين حيالها أنّهم أمام تحدّيات مختلفة، يدفعهم إلى طرح أسئلة حول موازين القوى الإقتصادية الجديدة التي ستنتجها هذه الأزمة. فمثلاً تتساءل أوساط سياسية واقتصادية مسيحية عن الهوية السياسية والطائفية للمصرفيين الجدد الذين تنوي الخطة الحكومية إدخالهم إلى القطاع المصرفي.

حالة عدم اليقين التي تسود المجال السياسي والاقتصادي المسيحي راهناً، ليست سوى أحد انعكاسات ارتطام سرديّة “الرئيس القوي” بحائط الانهيار الاقتصادي والمالي

كما أنّ الاتهامات الموجّهة للخطة الحكومية بتهديد أسس النظام الاقتصادي الحرّ، تلقى صدىً جدّياً بين تلك الأوساط، باعتبار أنّ “الليبرالية” تشكّل ثمرة سياسيّة مسيحية في لبنان. وعليه، فإنّ أيّ توجّهات اقتصادية غير ليبرالية للحكومة ستهدّد ما تبقّى من مواقع نفوذهم الاقتصادي في البلاد.

في المقابل، فإنّ سلوكيّات الأحزاب المسيحية الكبرى حيال تحدّيات الأزمة الحالية لا تعكس جهوزيتها لمواكبتها، وذلك بدليل “فوضى” طروحاتها السياسية/الاقتصادية، سواء لجهة الطرح الفيدرالي الذي يخالف، بحسب أوساط عارفة، التوجّه الفاتيكاني في المنطقة، أو لجهة الحديث عن “السوق المشرقية”، التي تعكس توجّهاً سياسيّاً إقليمياً يرتكز على نظرية “حلف الأقليات” (بحسب ما ينقل رجال أعمال التقوا باسيل أخيراً). وهذان طرحان يحملان تناقضاً نظرياً وعملياً، إذ كيف يتواءم الارتداد الجغرافي والسياسي الذي تمثّله المطالبة بـ “الفيدرالية”، والذي يثير انقساماً لبنانياً، مع الانخراط في أطر السوق الإقليمية المشروطة بحلول سياسيّة للانقسامات السياسية الطائفية في دول المشرق. هذا فضلاً عن أنّ دخول لبنان في أطر كهذه، كانت تاريخياً، في غالبها الأعم، “اشتراكية” الطابع، يشكّل تناقضاً مع وجهته الليبرالية التاريخية.

وفي المحصّلة، فإنّ حالة عدم اليقين التي تسود المجال السياسي والإقتصادي المسيحي راهناً، ليست سوى أحد انعكاسات ارتطام سرديّة “الرئيس القوي” بحائط الانهيار الاقتصادي والمالي.

مواضيع ذات صلة

مشاورات “الأعياد”: لا 65 صوتاً لأيّ مرشّح بعد!

تَجزم مصادر نيابية لموقع “أساس” بأنّ المشاورات الرئاسية في شأن جلسة التاسع من كانون الثاني قد تخفّ وتيرتها خلال فترة الأعياد، لكنّها لن تتوقّف، وقد…

السّيناريو البديل عن الانتخاب: تطيير الجلسة تحضيراً لرئاسة ترامب!

في حين يترقّب الجميع جلسة التاسع من كانون الثاني، يحتلّ عنوانان أساسيّان المشهد السياسي: من هو الرئيس المقبل؟ وهل يحتاج موظّفو الفئة الأولى، كقائد الجيش…

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…

الثنائي وترشيح عون: سوياً ضده… أو معه

كعادته، وعلى طريقته، خلط وليد جنبلاط الأوراق عبر رمي قنبلة ترشيحه قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، ليحرّك مياه الرئاسة الراكدة. قبيل عودته إلى…