في حوارٍ صريحٍ دارَ بيني وبين أحد الأصدقاء الموارنة، في الفترة التي كنتُ أقيم فيها بلبنان، أخبرني، دامجاً الجدّ بالمزاح، بأنَّ لدى الموارنة سبباً خاصاً كي لا يحبّوا رفيق الحريري! وحين سألتُه عن ماهيَّة ذلك السبب الخاص، أجاب مبتسماً: لأن الحريري “شلَّحنا فرنسا”!
أتذكَّر هذه الحكاية الطريفة، وأنا في صدد التمهيد للكتابة عن الشاعر اللبناني الفرانكفوني صلاح ستيتية، الذي غادر دنيانا قبل أيام، لأنَّ في قصَّته شيئاً شبيهاً.
إقرأ أيضاً: حنينٌ إلى لبنان “أمين معلوف”
فستيتية، ابن حيّ البسطة التحتا في بيروت، استطاع أن يصبح أبرز شعراء الفرانكفونية بشهادة كبار شعراء فرنسا ونقَّادها. أي إنه، بمعنى من المعاني، نجح في سحب البساط من تحت أقدام أدباء وشعراء الفرانكفونية اللبنانيين المسيحيين الذين يعتبرون ساحة الفرانكفونية ساحتهم التي لا ينازعهم عليها، في لبنان، أحدٌ. حتى جاء هذا البيروتي (المسلم) وجعل الفرنسية لغته الأُولى، لتجعله الفرنسية من شعرائها الأوائل.
وربما كان لهذه المفارقة “الهُويَّاتية” أثرٌ لا تخطئه عينٌ في مسيرة صلاح ستيتية. فمسألة الهوية التي يُفترَض أنها شائكة في حالة كحالته، برعَ في تحويلها إلى ميزةٍ سطعتْ بأضوائها على صفحات دواوينه ومجمل كتاباته.
والحقّ أن اختبار هذا الاحتكاك بين هُويَّة أصلية وهُويَّة مكتسبة، جاء مبكراً في حياة صلاح. فوالد الشاعر كان شاعراً أيضاً، وكان معلّماً حرص أشدَّ الحرص على تلقين ابنه كلّ ما يحتاجه ليكون شاعراً باللغة العربية، وتشريبه من مختلف مشارب الثقافة العربية الإسلامية لتتشبَّع شخصيته بكلّ ما يُمكّنه من تجذير هُويَّته العربية المسلمة كهويَّة أصلية لا يؤثّر عليها التعليم الفرنسي الذي كان يتلقَّاه، منذ الطفولة، في المدارس الفرنسية ببيروت.
إذا كان قد اختار لغةً غير لغته الأصلية، ليدرجَ على سهولها شاعراً وكاتباً، فقد قدَّم تفسيراً شخصياً مُقنعاً لذلك، حين قال في حوارٍ أجرته معه “فرانس 24” بأنَّ الشاعر أو الكاتب “يأخذ باللغة التي تأخذه”
لذلك اغتنى شعره، الذي اختار منذ البداية أن يُكتَب بالفرنسية، بروح التصوُّف المشرقي وبما يشبه الظلال الوجدانية لروح لغته العربية الأمّ. ومنذ باكورته الشعرية المعنونة بـ”الماء البارد المحفوظ” الصادرة سنة 1972، مروراً ببقيَّة دواوينه، لم تفارق تلك الروحُ زوايا شعره.
لقد اختزنت قصيدتُه الأعمقَ والأنقى في مصبّ الثقافتَيْن الفرنسية والعربية، رافضةً أن تكون مجرَّد “مخزون سطحي”، والتعبير له مستلٌّ من “حملة النار” (1972)، للثقافة أو للُّغة.
الشاعر الدبلوماسي
العمل الدبلوماسي الذي مارسه صلاح ستيتية (مندوب لبنان الدائم لدى “الأونيسكو”، ثمَّ سفير لبنان في المغرب، ثمَّ لاهاي… إلخ)، لا بدَّ أن يُذكّرنا بوجود مجموعة مهمَّة من الشعراء العرب الذين مارسوا العمل الدبلوماسي، وكانوا نجوماً بحقٍّ في عالم الشعر، أمثال نزار قبَّاني وعمر أبو ريشة.
ففي سيرة هذه الفئة من الشعراء الدبلوماسيين ما يُغري ببذل بعض الجهد لإيجاد لمحات مشتركة بينهم كسفراء لثقافة بلادهم لدى الثقافات الأُخرى. لكنَّ لصلاح ستيتية ميزةً مضافةً باعتبار أنه كان سفيراً مزدوجاً: لثقافة بلاده لدى فرنسا، وللثقافة الفرنسية لدى بلاده.
وإذا كان قد اختار لغةً غير لغته الأصلية، ليدرجَ على سهولها شاعراً وكاتباً، فقد قدَّم تفسيراً شخصياً مُقنعاً لذلك، حين قال في حوارٍ أجرته معه “فرانس 24” بأنَّ الشاعر أو الكاتب “يأخذ باللغة التي تأخذه”.
وفي حياته التي استغرقت من العقود تسعةً، نجح الشاعر صلاح ستيتية بأن يأخذ اللغة الفرنسية “التي أخذته” إلى ينابيع ثقافته الأصلية، ليعيد إنتاج الشعر بوصفه حواراً حضارياً… مقدّماً أجدر الأمثلة عن قدرة الشعر على أن يكون أعمق حوار بين الحضارات، وعن قدرة الشاعر على أن يكون سفيراً أبعد بكثيرٍ من لعبة السياسة.
صلاح ستيتيَّة: شاعر وكاتب وناقد فنّي ودبلوماسي. ولد في حي البسطة التحتا ببيروت سنة 1929. نال إجازة الحقوق من “الجامعة اليسوعية” في بيروت، ثمَّ التحق بجامعة “السوربون” في باريس سنة 1951. ربطته صداقاتٌ بكبار شعراء وأدباء فرنسا أمثال: رينيه شار وإيف بونفوا وأندريه بروتون وهنري ميشو وأندريه دو بوشيه. ولعب دوراً كبيراً في الحياة الأدبية الفرنسية من خلال مساهماته في كُبريات مجلات الإبداع الأدبي في فرنسا. حصل على “جائزة الفرانكفونية الكبرى” سنة 1995، إضافة إلى العديد من الجوائز المهمَّة الأُخرى. من أعماله الشعرية: “الماء البارد المحفوظ” (1972)، “شذرات” (1978)، “انعكاس الشجرة والصمت” (1980)، “الكائن الدمية” (1983)، “القنديل المعتم” (1990)، “حمَّى الأيقونة وشفاؤها” (1996)، “الكائن” (2014). وله رواية وحيدة بعنوان “قراءة امرأة” (1988). تُرجمت أعماله إلى مختلف اللغات العالمية (ترجم له إلى العربية: كاظم جهاد، رواد طربيه، مصباح الصمد، وآخرون). توفّي في باريس يوم 19 أيَّار 2020.