مثل كلّ الانهيارات الاقتصاديّة التي حصلت على مرّ التاريخ، أنتج الانهيار الحاصل في لبنان قدراً لا يُستهان به من الخسائر الموجعة.
الإشكاليّة الفعليّة اليوم هي في طريقة توزيع هذه الخسائر بشكل عادل، وليس بشكل متساوٍ، بين الفئات الاجتماعيّة المختلفة، وأصحاب المصالح والنفوذ في النظام الاقتصادي اللبناني.
نشهد كباشاً لا مفرّ منه قد بدأ، يتعلّق بسؤال كبير: من سيدفع ثمن الانهيار وكيف؟
يحيلنا هذا السؤال تلقائيّاً إلى التساؤل عن نوعيّة المعالجات والحلول التي سيتمّ اعتمادها خلال الفترة المقبلة، خصوصاً أن كلّ طرح أو خيار متداول حاليّاً يفضي إلى توزيع مختلف للخسائر بين هذه الأطراف. ولذلك، بدأ البعض بتحضير أوراقه استعداداً لهذا الكباش، كحال جمعيّة المصارف التي أنجزت خطّة تضمّنت حلولاً مقترحة تصبّ تلقائيّاً في مصلحتها، وتحيّد رساميل المصارف عن تحمّل الخسائر، في مقابل خطّة الحكومة التي ركّزت على القدر الممكن امتصاصه من هذه الخسائر عبر تحميلها لرساميل المصارف ومصرف لبنان.
إقرأ أيضاً: لماذا يريد باسيل إقراراً بأن الودائع “راحت”؟
لكن في المقلب الآخر، ثمّة شرائح اجتماعيّة واسعة ما زالت خارج النقاش كليّاً، ولم تتمكّن حتّى اللحظة من الدخول إلى حلبة الكباش هذه، رغم أن مصالحها ومستوى معيشتها مرتبطان بشكل لصيق بطريقة توزيع هذه الخسائر. تتنوّع هذه الشرائح بين المودعين المعنيين بمصير ودائعهم، ومحدودي الدخل المعنيين بسلامة النقد والقيمة الشرائيّة لأجورهم، وصولاً إلى كلّ المستفيدين من شبكات الحماية الاجتماعيّة التي تقدّمها الدولة والتي ستتأثّر بأيّ سياسات تقشّف قد يجري اعتمادها.
لا يمكن الحديث عن الخسائر دون البدء بالتزامات القطاع المصرفي بالعملات الأجنبيّة. فهذا القطاع يدين اليوم – بحسب أرقام مصرف لبنان حتّى نهاية شهر آذار – بأكثر من 116 مليار دولار لمودعيه، وبالعملات الأجنبيّة. وبحسب دراسة جمعيّة المصارف الأخيرة نفسها، وظّف هذا القطاع ما يقارب الـ85 مليار دولار من هذه السيولة بالعملة الصعبة في سندات اليوروبوند ولدى مصرف لبنان. بمعنى آخر، وظّفت المصارف هنا أكثر من 73% من أموال المودعين بالعملات الأجنبيّة، في حين لم يتبقَّ من هذه الأموال سوى ما يقارب الـ20 مليار دولار كسيولة جاهزة لدى مصرف لبنان، وذلك بحسب حاكم المصرف المركزي نفسه.
حتّى اللحظة، يحاول مصرف لبنان توزيع الخسائر المرتبطة بهذه الودائع على طريقته، من خلال تعميمه الذي سمح بسحب الودائع الصغيرة بالليرة اللبنانيّة ضمن سقوف معيّنة، ووفق سعر صرف يبلغ حاليّاً حدود الـ3000 ليرة مقابل الدولار. بهذه الطريقة، سيخسر المودع جزءاً من قيمة وديعته، من خلال الفارق بين سعر الصرف الفعلي – الذي يتجاوز اليوم الـ4200 ليرة مقابل الدولار – وسعر الصرف الذي تمّ تحديده لهذه العمليّات. لكن في المقابل، سيتمكّن المودعون من استرداد جزء معتبر من الودائع من خلال سحبها بالليرة.
لكنّ هذه الطريقة في توزيع الخسارة تحمّل من ناحية أخرى الكلفة لفئات أخرى، وبشكل قاسٍ جدّاً. فنتيجة هذه العمليّات الطبيعيّة ستكون طبع المزيد من السيولة بالليرة اللبنانيّة وضخّها في الأسواق، وهي سيولة ستتحوّل بالتأكيد إلى طلب على الدولار لاحقاً لغاية الادّخار أو الاستهلاك، خصوصاً أن السوق المحلّي يعتمد بشكل كبير على السلع المستوردة. ويمكن الالتفات إلى الأثر الكبير لهذه العمليّات إذا لاحظنا أن حجم الكتلة النقديّة المتداولة خارج المصرف المركزي لم تتجاوز قيمتها حتّى نهاية شهر نيسان الـ10.41 مليار دولار، في حين أن حجم الودائع التي يمكن أن تُسحب بالليرة بهذه الطريقة تتجاوز قيمتها الـ116 مليار دولار.
في الواقع، تملك جمعيّة المصارف تصوّراً آخر لمعالجة الأمر توزيع الخسارة. فدراسة جمعيّة المصارف الأخيرة نصّت على تشكيل صندوق يضمّ أصول الدولة القادرة على درّ الأرباح، على أن تكون هذه الأصول ضمانة الديون التي تدين بها الدولة لمصرف لبنان، الذي يدين بدوره بهذه الأموال للمصارف وبالتالي إلى المودعين. بمعنى آخر، فإن عدم سداد هذه الديون، وهذا هو المتوقّع، سيعني تسديدها من خلال خصخصة أصول الدولة التي جرى ضمّها إلى الصندوق.
في كلّ الحالات، ستخضع للمفاوضات مسألة توزيع الخسائر المرتبطة بالفجوة القائمة في ميزانيات المصارف والمصرف المركزي. مفاوضات ستحدّد الكلفة التي سيتحمّلها كلّ طرف
يمكن فهم حماسة المصارف لهذه الطريقة في توزيع الخسائر، خصوصاً أنها تسمح بسداد الفجوة في ميزانيّاتها، واستعادة ملاءة النظام المصرفي وسداد الالتزامات للمودعين، دون أن تتحمّل المصارف أيّ قدر من الخسارة في رساميلها. لكنّ هذه المقترحات واجهت بدورها جملة من الانتقادات، كونها تحمّل عموم اللبنانيين كلفة المعالجة من خلال التنازل عن ممتلكات الدولة، ودون أن تتحمّل المصارف أيّ قدر من المسؤوليّة نتيجة طريقتها في إدارة الأموال المؤتمنة عليها.
في كلّ الحالات، ستخضع للمفاوضات مسألة توزيع الخسائر المرتبطة بالفجوة القائمة في ميزانيات المصارف والمصرف المركزي. مفاوضات ستحدّد الكلفة التي سيتحمّلها كلّ طرف. ومن المتوقّع ألاّ تُعتمد المعالجات في النهاية وفق قاعدة أبيض أو أسود، أي أن الحلول التي سيُتفق عليها ستكون مزيجاً من خيارات عديدة، توزّع الخسائر بأقدار معيّنة بين الفئات المختلفة. أمّا ما يجري حاليّاً من إجراءات، ومن تسويق للبدائل المختلفة من قبل جميع الأطراف، فليس سوى محاولة لدفع النتائج لتكون أقرب إلى هذا الخيار أو ذاك، أي أنّه استطلاع بالنيران الإعلامية والخطط والخطط المضادّة، وتمهيد بالنيران أيضاً للمفاوضات النهائية.
لكن بمعزل عن هذه الخسائر المتعلّقة بسداد الديون السياديّة ومعالجة فجوات النظام المصرفي، ثمّة خسائر كبيرة متوقّعة على المستوى الاجتماعي. فتدهور سعر الصرف يعني تراجع القدرة الشرائيّة للفئات المحدودة الدخل. والذهاب إلى “صندوق النقد الدولي” سيعني تلقائيّاً الالتزام مستقبلاً ببرامج تقشّفيّة مؤلمة ستطال بشكل أساسي الفئات التي كانت تستفيد من تقديمات الدولة المختلفة. وفي ظلّ ضعف الحركة النقابيّة في لبنان، وبينما لا تبدو الحكومة حتّى اللحظة مهتمّة بهذا النوع من الالتزامات، يبدو أنّ هذه الفئة ستستمر بتحمّل قدر كبير من كلفة الانهيار.