أعطى الوزير السابق جبران باسيل في مؤتمره الصحافي الأخير شهادة سياسية بمدّعي عام جبل لبنان القاضية غادة عون، ربطاً بملف الفيول المغشوش إذ أعلن أنّها “ليست قاضية القصر الجمهوري”.
القاضية “القبضاي” كانت قطعت الطريق على أيّ نوع من هذه الشهادات بحقها يوم سجّلت اعتراضاً علنياً على تعيينها مستشارة في محكمة التمييز في مرسوم التشكيلات القضائية مؤكّدة عبر صفحتها على فايسبوك أنها ستضع استقالتها “بتصرّف رئيس الجمهورية”، وستعلن عن ذلك في مؤتمر صحافي “تقول فيه كلّ شيء”، واصفة التشكيلات بـ”الانتقامية”.
إقرأ أيضاً: في تفنيد “أكاذيب” باسيل: أنت “سلطة” ولستَ “معارضة”
لا تسجّل الذاكرة القضائية تجاوز أيّ قاض للأصول والقوانين، حين يقرّر وضع استقالته بتصرّف مرجعية سياسية، وليس بتصرّف مجلس القضاء الأعلى. لكن ما حصل عملياً، ولأنّ غادة عون محسوبة في السياسة على الرئيس ميشال عون، عملت بتوجيهات “القصر”. لوّحت بالاستقالة، ثم عدّت للعشرة، وأخذت جرعة مقوّيات بعدما وُعِدت من رئيس الجمهورية شخصياً، ومن الوزير سليم جريصاتي، الذي يُعتبر “العقل القانوني” للرئاسة الأولى، بأنّ مرسوم التشكيلات القضائية لن يمرّ: ارتاحي!
ارتاحت غادة عون، ومعها مجموعة من القضاة المقرّبين من رئيس الجمهورية والوزير باسيل، بينما يرى العديد من زملائهم أن التشكيلات ظلمتهم فعلاً.
في القصر الجمهوري تطرح، صراحة، الحالات “العونية” الفاقعة في التشكيلات، وبالأسماء. ثمّة إقرار عوني بأنّ القاضية غادة عون ذات شخصية حادة ومثيرة للجدل وتنقسم الآراء حولها ضمن المعسكر الواحد ما دفع فريق من العونيين إلى إعلان الحرب عليها خلال خوضها معركة الفساد القضائي. لكن ما لم يهضمه القصر الجمهوري، هو أولاً تعيينها مستشارة بعد مسيرتها الطويلة وعملها في سياق ملفات الفساد ورمزيتها لدى العهد، ثم قرار مجلس القضاء باستبدالها بقاضٍ “محسوب على القوات اللبنانية”.
وتتوالى الحالات: قاضي التحقيق العسكري مارسيل باسيل الذي عُيّن مستشاراً في محكمة الجنايات، وقد أُخِذ عليه “قلّة الإنتاجية” فأصبح مستشاراً. في المقابل القاضي ساندرا المهتار، المحسوبة على النائب السابق وليد جنبلاط، بمواصفات “الإنتاجية الضعيفة” نفسها، لكنها رُفّعت لتصبح رئيسة هيئة اتهامية. معاون مفوض الحكومة القاضي رولان شرتوني الذي عيّن مستشاراً في محكمة جنايات بيروت ارتأى مجلس القضاء إعادته خطوات إلى الوراء بسبب مخالفة ارتكبها أخّرت تدرّجه، لكن محيط الرئيس يتحدّث مثلاً عن القاضية رنده يقظان التي أُخّرت ثلاث درجات بعد تسلّمها أحد ملفات المخدرات، لكنها بقيت في موقعها كقاضي تحقيق. سمرندا نصار شُكّلت من موقعها كقاضي تحقيق أول إلى “قاضي تحقيق” بسبب مشاركتها في حفلة عشاء لـ “التيار” ومعايرتها بقربها من العونيين. على قياس مغاير من “العيوب” رَصَد المحيطون برئيس الجمهورية اسم القاضي حبيب رزق الله، المعروف بقلة إنتاجيته، تعيينه رئيساً أوّلَ في بيروت، فقط لقربه من رئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبود.
وعلى خطّ آخر، يتحدّث القريبون من عون عن نوع من “التذاكي علينا” حين تعيّن رانيا يحفوفي مدعية عامة في الجنوب فيما زوجها هو أحد المسؤولين في مكتب الرئيس نبيه بري. لقد استبدلوا القاضي رهيف رمضان، المحسوب على برّي، بقاضٍ آخر محسوب عليه، حتى لو الفارق بـ”الصيت” واضح.
التململ يتمدّد صوب التحجيم الذي طال قاضي التحقيق الأول نقولا منصور بعد تعيينه رئيس محكمة استئناف بعلبك، مع العلم أن ثمّة قضاة بارزون يسجّلون على منصور هفوات عميقة في قضايا استحوذت على اهتمام كبير لدى الرأي العام.
ويصل الأمر في محيط رئيس الجمهورية إلى الإضاءة على حالات نافرة حتّى ضمن المعسكر المضادّ، فقط للتدليل على “ارتجاج” المعايير.
ويتساءل هؤلاء: “إذا كان المقياس الولاء السياسي، فهناك قضاة كرّموا بينما ميولهم السياسية معروفة. ونحن نسأل هل من يشكّك بكفاءة ونزاهة وإنتاجية مستشار رئاسة الحكومة معاون مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي هاني حلمي الحجار القريب من سعد الحريري، فأين المنطق في تعيينه مستشاراً في محكمة الاستئناف؟. الحريري قرّر عدم خوض معركته.. هذا شأنه. لكن ماذا عن قضاة آخرين غير لامعين أو محسوبين على مرجعيات وتمّ تعزيز مواقعهم؟”…
الرابط المباشر لغادة عون هو مع رئيس الجمهورية. لكنّ باسيل غير راضٍ عن أدائها بسبب طبعها المتفلّت الذي يصعب السيطرة عليه
في سياق آخر، لم يمرّ كلام البطريرك بشارة الراعي بهدوء في بعبدا، التي رأت فيه سلبية غير مبرّرة. يقول متابعون إنّ “التلميحات الصريحة التي وجّهها الراعي بشكل أساس ضد القاضية غادة عون تعطي مفعولاً عكسياً، بمعنى التمسّك بما تقوم به اليوم في ملف الفيول المغشوش وملفات الفساد المفتوحة وعدم السكوت عن الضرر الذي لحق بها وبقضاة آخرين في التشكيلات، خصوصاً أنّ التلميحات طالت أيضاً القاضي منصور المعنيّ بالملف نفسه”.
وكانت لافتة “لطشة” باسيل للقاضية عون في مؤتمره الصحافي الأخير مؤكّداً: “لن نقبل تضييع المسؤوليات أو الافتراء على بريء. القضية ليست قضية ساعات إضافية ولا هي قضية هدية في عيد الميلاد. القضية هي رشاوى لتحقيق فعل تزوير في نتائج المختبرات أو العيّنات”، مطالباً من يعتبر أنّها “قاضية القصر الجمهوري أن يطلب تنحّيها”.
أتى ذلك بعدما كانت عون أبقت على توقيف مديرة عام النفط أورور الفغالي التي تحمل بطاقة “التيار الوطني الحر” والمحسوبة شخصياً على باسيل، وادّعت عليها بالتزوير “بزيادة عدد ساعات إضافية لرئيسة دائرة في مديرية النفط وهي خارج لبنان”، وذلك بعد موافقة الهيئة الاتهامية في جبل لبنان على طلب إخلاء سبيلها. لكنّ عون وافقت لاحقاً على قرار القاضي منصور بإخلاء سبيلها مقابل كفالة قدرها 100 مليون ليرة في ملف الباخرة المغشوشة الجديدة (وهي قيمة عالية تؤشّر إلى وجود شبهات في جناية التزوير)!
يقول العارفون في هذا السياق إنّ “الرابط المباشر لغادة عون هو مع رئيس الجمهورية. لكنّ باسيل غير راضٍ عن أدائها بسبب طبعها المتفلّت الذي يصعب السيطرة عليه. وقد ظهر ذلك بوضوح في ملف الفيول المغشوش بحيث شعر العونيون أنها تريد أن تكون “بطلة” على حسابهم”.