الشيخ أحمد العجوز: العالم البيروتي باني مساجد القرى

مدة القراءة 11 د


عرفته جدّاً قبل أن أعرفه عالماً متعدّد المواهب، متعدّد الاهتمامات. ينتمي إلى طبقة من العلماء تميّزوا منذ نشأتهم، وفي سِيَرهم، وسَمْتهم، ومعاملاتهم مع الأقران، ومع سائر الناس، فميّزوا مكانة بيروت علمياً ودورها الحاضن والمُشعّ، ما بين الاستقلال إلى اندلاع الحرب الأهلية عام 1975، والتي يمكن اعتبارها المرحلة الذهبية في سيرة الشيخ أحمد في مجالات الدعوة والتربية والتعليم، وبناء المساجد في بيروت وخارجها، وفي القرى النائية خاصة. وذلك قبل أن يرجح جانب التعليم فيه، طوال سنواته الأخيرة، وهو ينحو إلى التسعين حَوْلاً، فلم يسأم من تلقين فنون اللغة العربية لطالبيها بأسلوب شيّق رائق، يجعل أشدّ كارهيها عاشقاً لها متيّماً!

إقرأ أيضاً: “دولة الحاج” حسين العويني: من “هيك هيك” إلى “دار العجزة”

لم يكن شيخاً أزهرياً وحسب، بل كان وجيهاً بين العلماء. متكلّماً لبقاً، فصيح اللسان، ذا كاريزما وهيبة، ولكنه في الوقت نفسه أديب طريف. يحفظ من الشعر الكثير، وينظم الشعر بسهولة في شتى مواضيعه إلا الهجاء، فأكبر شتيمة استعملها هي “منحوس” بالمفرد و”مناحيس” بالجمع. كان علماً غزيراً مع أخلاق وافرة. اختصره لي الشيخ محمد الداعوق عندما زرته بعد وفاة جدّي عام 1995، بحثاً عن شهادة في رفيق دربه المتوفى قبله بأشهر فقط، فلم يجد غير عبارة واحدة وهي أن الشيخ أحمد العجوز كان صاحب خُلُق. قالها لي بتأثر شديد. عالم بيروتي آخر، من جيرانه في منطقة البسطا الفوقا، قصدته للغاية نفسها، في العام نفسه، فكان ردّه لي مفاجئاً، رافضاً التكلّم عنه. فالشيخ عبد الله العريس كان مرشحاً للإفتاء في مواجهة الشيخ حسن خالد، عام 1966، فوجد نفسه في معركة غير متكافئة، مع استنكاف كبار العلماء آنذاك. في السياق نفسه، قد يكون الشيخ العجوز أغضب بعض المشايخ المؤيدين لثورة عام 1958 ضد الرئيس كميل شمعون ورئيس الحكومة في ذلك الوقت سامي الصلح. هذه الثورة المدعومة من الرئيس جمال عبد الناصر والتي قسمت لبنان إلى معسكرين، لم تستطع إزاحة الشيخ أحمد عن مبادئه. فقد طُلب منه التوقيع على عريضة تُخرج سامي الصلح من الملّة، بسبب تحالفه مع شمعون، وهو رفض ذلك بشدّة. تمرّ الأيام، وينكشف خيط رفيع عن مؤامرة دُبّرت من جهة ثورية ما لاغتياله بسبب موقفه هذا، لكن الرجل المكلّف بالعملية رفض التنفيذ. وسيظلّ الشيخ أحمد في موضع المتنازَع عليه بين الاتجاهات والجماعات، لاستمالته إليها، وبرز ذلك أخيراً عند تشييعه في مقبرة الإمام الأوزاعي.

آثاره العلمية

لم تكن ثقافة الشيخ أحمد العجوز محدودة في المجالات الإسلامية التقليدية وفي علوم اللغة العربية. بل إن من المسائل التي جهد في التعمّق فيها، والتصدّي لها، هو الإعجاز العلمي في آيات القرآن، جامعاً بين تضلّعه في اللغة وتتبّعه للنظريات الحديثة في شتى العلوم مستعيناً في تفسيره بأصدقائه من أهل الاختصاص. وألّف كتاباً في هذا المضمار هو: “معالم القرآن في عوالم الأكوان” عام 1987م. وفي علم المواريث ألّف كتاب: “الميراث العادل في الإسلام بين المواريث القديمة والحديثة” عام 1994. كما قدّم لكتاب مختار سالم خبير الطب الطبيعي، وعنوانه: “الطب الإسلامي بين العقيدة والإبداع”. أما كتبه الأخرى فكانت تربوية الطابع، مثل كتاب: “محمد حياته وسيرته” (4 أجزاء) عام 1959، وكتاب: “أنا مسلم”، وكتاب: “الإسلام ديني” (خمسة أجزاء) و”مبادئ دروس الإسلام” (جزءان) للمرحلة الابتدائية، عام 1961. وكتاب: “النهج الجديد في فن التجويد”. أما كتابه: “مناهج الشريعة الإسلامية” (3 أجزاء) في عام 1969، فهو يسير على المنهج نفسه، أي تيسير المعلومة للطالب، والمقارنة بين الشريعة والعلوم العصرية. وآخر كتاب صدر له عام 1994 وهو: “لمعات مشرقة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وأهل بيته”.

لقد كانت تجربته الأولى في الكتابة إثر حصوله على الشهادة العالمية من أزهر مصر عام 1345هـ/1925م، وعودته إلى بيروت. فقد صدر كتاب “نظرات في الحجاب والمدنية” بتوقيع نظيرة زين الدين، حسب ما جاء في مذكّرات الشيخ. ووالدها سعيد كان رئيس محكمة الجنايات. ومضمون الكتاب أن الحجاب غير وارد في القرآن. فكتب ردّاً بعنوان: “البراهين الجلية في الحجاب والمدنية”، انتهى منه في أواخر شوال عام 1346هـ الموافق عام 1926م. وذيّله باسم “الشيخ أحمد محيي الدين الأزهري”، لأنّ شقيقه محمود كان مفوّضاً في دائرة التحرّي، ولا يريد الإضرار به. طبع ألفي نسخة من هذا الكتيّب ووزّعها مجاناً. لكنّ هذه الحادثة كان لها تداعياتها. فالشيخ توفيق خالد، وكان رئيس الكَتَبة في المحكمة الشرعية، اعتبر أنّ التذييل بهذا الاسم هو طلبٌ للشهرة عبر الادّعاء بأنّه عالم أزهري، فكان يدور على مشايخ المحكمة ويتكلّم عليه. ويقول الشيخ أحمد، إنّ الوقت كان كفيلاً بإزالة آثار ذلك الجفاء. كتاب نظيرة زين الدين أثار زوبعة كبيرة في العالم العربي، عام 1928، وردّ عليه الشيخ مصطفى الغلاييني (1885-1944) بكتاب مفصّل، بعد زمن يسير من صدور كتابها. لكنّ ردّ الشيخ أحمد سيطبع نهجه في التأليف والكتابة طوال عمره المديد.

نشأته ودراسته

وُلد أحمد محيي الدين العجوز عام 1322هـ/1904م. وبعد دراسة ابتدائية في كتاتيب بيروت، كتّاب الشيخ عبد الرحمن عفره وكتـّاب الشيخ خضر البعلبكي. انتقل للعمل في محلّ التاجر مصباح قرنفل، وبقي إلى ما بعد احتلال الحلفاء للبلاد. تابع علومه الشرعية في جامع المصيطبة على يد الشيخ محمد توفيق خالد (مفتي الجمهورية لاحقاً) وعلى الشيخ مصباح شبقلو، وعلى الشيخ محمد المجذوب في الجامع العمري الكبير. في تلك الأيام كانت بيروت مدينة صغيرة، تتخلّل أحياءها المتناثرة رمول وأشجار بريّة. وكان الانتقال سيراً على الأقدام من البسطا الفوقا إلى المصيطبة فجراً لحضور الدروس محفوفاً بالمغامرة. يروي الشيخ أحمد عن تلك المرحلة أن كلباً كان يعترضه كلّ يوم في الطريق إلى جامع المصيطبة. وكان لديه كلب حراسة يرافقه من المنزل، وعندما يقترب من الجامع، يسبقه مشاغلاً كلب المنطقة إلى أن يمرّ أحمد العجوز بسلام.

برزت نباهة أحمد العجوز عندما رحل إلى أزهر مصر لمتابعة العلوم الشرعية عام 1341هـ/1921م، فكان مدرّساً وطالباً في آن. كانت الدروس النظامية في الجامع الأزهر من السبت إلى الخميس، من الثامنة صباحاً إلى ما بعد العصر. وفي يومي العطلة، أي يومي الخميس والجمعة، كان أحمد العجوز طالب العلم، يدرّس علم المواريث في الجامع الأزهر بحضور عدد كبير من طلاب العالم الإسلامي، ومن بينهم مصريون نظاميون يُشترط فيهم لنيل الشهادة العالمية طلب العلم لخمس عشرة سنة. وما ميّز درس الشيخ أحمد، كما يروي في مذكّراته، أنّه كان يشرح قواعد الميراث مستخدماً وسائل الإيضاح. يشرح قواعد الميراث على اللوح، ويقسم أسهم الورثة بحسب القواعد، فيفهمها الطلبة جيداً. وكان من تلاميذه الشيخ محمد الداعوق رفيقه الذي أصبح فيما بعد رئيس المحاكم الشرعية في لبنان. وفوق ذلك كان يعطي دروساً خاصة لتقوية الطلبة المتأخرين. ويدرّس آخرين، بحسب الطلب، وكان منهم الشيخ هاشم الدفتردار المدني الذي درّسه علم الحكمة العقلية، فقد أقام له جدولاً خاصاً بالمقولات العشر على دفتر خاص ظلّ بحوزة الشيخ المدني خلال إقامته بالمملكة العربية السعودية. بل كان يهيئ بعض الطلاب المنتهين تحضيراً لهم لنيل الشهادة العالمية الأزهرية.

إلى جانب تأسيسه “جمعية المحافظة على القرآن الكريم” و”جمعية مكارم الأخلاق الإسلامية”، فضلاً عن جمعيات أخرى كان فيها عضواً ثم رئيساً مثل “جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية”، إلا أن “جمعية بناء وترميم المساجد” قامت بعمل مشهود وغير مسبوق في بيروت والقرى

الطالب أحمد العجوز الذي يدرس على يد الشيوخ ويدرّس الطلاب، أصبح من التمكّن العلمي بحيث تفوّق في الامتحان النهائي الذي اشتكى منه المصريون النظاميون لصعوبته. فكان الأول في تلك السنة. وطريقة الامتحان مميّزة. يُمتحن الطالب باثني عشر علماً. تتكوّن اللجنة من سبعة أو ثمانية شيوخ، يجلسون على شكل نصف دائرة. يجلس أمامهم الطالب. يُطلب منه شرح المسائل العويصة من كلّ علم، وهو يُمسك بملزمة العلم المقصود.

ويقول الشيخ أحمد عن مرحلة الدراسة تلك، إنه تفرّغ لها تماماً متجرّداً من أيّ شيء، “ولا نمضي الوقت إلا للمطالعة. وبعد أسابيع نستريح قليلاً إلى القناطر الخيرية، وبعض رياض القاهرة، على بعض شواطئ النيل”. حتى إنّه درس علم الفلك، والخطّ، واللغة الفرنسية في مدرسة ليلية غير تابعة للأزهر، فيما كان يتقن اللغة التركية قراءة وكتابة.

التدريس في المقاصد

بعد الاستقرار في بيروت، لم يسعَ لمنصب رسمي بل كان يرفضه. وبدأ حياته العملية مدرّساً في مدارس “جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية”. درّس تلاوة القرآن مع أحكام الدين والآداب والرسم في المرحلة الابتدائية في “مدرسة البنين الأولى” في الحرج. ودرّس القرآن وأحكام الدين والعلوم العربية من نحو وصرف في مدرسة “أبي بكر الصديق” في القنطاري. وكذلك درّس في مدرسة “الفاروق” في الطريق الجديدة.        

 وفي الاحتفالات السنوية لمدارس المقاصد، نظم أناشيد عدة لحّنها الأخوان فليفل، محمد وأحمد، ومنها نشيد القرآن الكريم عام 1357هـ/1938م ومما جاء فيه:

جاءنا القرآن بالنور المبينْ

                  في جلالٍ من إله العالمينْ

آيُهُ الدر الغوالي   أشرقتْ

                 فأضاءت منهج الحق المبينْ

أفحم البلغاءْ       

      أعجز الفصحاءْ

سبكُهُ، سرُّهُ

      روعة التبيانْ

أخرس الشعراءْ      

     أسكت الخطباءْ

لفظُهُ، نظمُهُ

     حكمة الرحمنْ

وكان إلى ذلك، يتطوّع في تنظيم حفلات مدرسية إسلامية أخرى، وفي تحصيل الدعم المادي لها. ففي المدرسة الأزهرية للشيخ محمد عساف، كان يرتّب ما يجب ترتيبه من حفلات ومحاورات أدبية وعلمية. وفي مدرسة روضة العلوم للأستاذ عبد الغفور نايف، كانت إسهامات الشيخ العجوز كثيرة. فكان يهيئ لها وقائع حفلاتها السنوية، بدءاً من كتابة خطب عبد الغفور نايف، وللطلاب الخطباء، إلى كتابة محاورات أدبية وعلمية وفلسفية وروايات دينية، ومنها رواية “أعلام النبوة” من أربعة فصول. فكان الشيخ أحمد يمرّن الطلاب على الإلقاء والتمثيل. وقد فُقد أكثر تلك المحاورات، وبقيت “المحاورة الفلسفية” في المدرسة عند الأستاذ أحمد عبد الغفور. وكان الفنّان محمد الغول المعروف بمحمد شامل من بين الذين يتردّدون عليه، وهو مثله من سكّان البسطا الفوقا، فيتجاذبان أطراف الحديث في هذا الصنف من الفنون.

ومن القصائد التربوية اللطيفة التي نظمها الشيخ أحمد العجوز في مستهلّ حياته العملية عام 1938، قصيدة في الوصايا الطبية من 28 بيتاً حتّى يستغني المرء عن الدواء وجاء فيها:

اسمع وصايا وافية

                تكفي لحفظ العافية

فاحرص عليها إنّها

               للداء تغدو نافية

                            **

خير الأمور الوسطُ

              كم من أناس أفرطوا

مرضت لذا أجسادهُمُ

            وتراهُمُ لم ينشطوا

                           **

وكم قوام الجسمِ

                  في أصل طبّ القومِ

في سبعةٍ برياضةٍ

               شربٍ، أكلٍ، نومِ

                          **

ثم الهواء الصافي

               تنظيمُ جسم وافي

وبراحةٍ مثلى له

                 من غير ما إسرافِ

 

بناء وترميم المساجد

إلى جانب تأسيسه “جمعية المحافظة على القرآن الكريم” و”جمعية مكارم الأخلاق الإسلامية”، فضلاً عن جمعيات أخرى كان فيها عضواً ثم رئيساً مثل “جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية”، إلا أن “جمعية بناء وترميم المساجد” قامت بعمل مشهود وغير مسبوق في بيروت والقرى. وأول مسجد قامت الجمعية ببنائه في بيروت هو مسجد الأشرفية الشرقي المسمى “مسجد الحسنين”. ومن أبرز المساجد التي بنتها لاحقاً، “مسجد عمر بن الخطاب” المعروف باسم “الخلية السعودية”، و”مسجد عائشة بكار”. وأول مسجد بنته في القرى هو “مسجد مكسا” في البقاع. وبلغ مجموع المساجد التي أنشأتها أو رمّمتها الجمعية، أو ساعدت في إنشائها، مائة وثمانين مسجداً.

ولا يغيب عن بال المفتي الشيخ خليل الميس حادثة عجيبة يردّدها دائماً في استذكاره دوراً رائداً لبيروت في زمن سابق. فعندما عاد الشيخ الميس من مصر لدى انتهائه من الدراسة، خطرت له فكرة الذهاب إلى قرية معربون على الحدود مع سوريا، لبناء مسجد فيها. ولا توجد طريق معبّدة إلى تلك القرية النائية. وصل إليها بعد مشقّة، فكانت المفاجأة أنّ الشيخ العجوز سبقهم إليها وعمّر فيها مسجداً. فكيف وصل إليها وبأيّ طريقة؟

… لن تنسى أجيال من أبناء القرى النائية شيخاً بيروتياً يركب حماراً يغذّ السير إليها كي يبني لها مسجداً!

مواضيع ذات صلة

هوكستين موفد ترامب… فهل يضغط لإنجاز الاتّفاق؟

كثيرٌ من الضبابية يحيط بمصير المفاوضات التي قادها آموس هوكستين بين لبنان وإسرائيل، أو بالأحرى بين “الحزب” وإسرئيل، عبر رئيس مجلس النواب نبيه برّي. التفاؤل…

الاتّفاق Done: إعلانه خلال أيّام.. أو أسابيع؟

بين واشنطن وتل أبيب وبيروت أصبحت شروط الاتّفاق معروفة، ولا ينقصها سوى لمسات أخيرة قد تستلزم يوماً واحداً، وقد تطول لأسابيع، أربعة ربّما. لكن ما…

“اليوم التّالي” مطعّم بنكهة سعوديّة؟

لم يعد خافياً ارتفاع منسوب اهتمام المملكة العربية السعودية بالملفّ اللبناني. باتت المؤشّرات كثيرة، وتشي بأنّ مرحلة جديدة ستطبع العلاقات الثنائية بين البلدين. الأرجح أنّ…

مخالفات على خطّ اليرزة-السّراي

ضمن سياق الظروف الاستثنائية التي تملي على المسؤولين تجاوز بعض الشكليّات القانونية تأخذ رئاسة الحكومة على وزير الدفاع موريس سليم ارتكابه مخالفة جرى التطنيش حكوميّاً…