في 10 كانون الأول الحالي صدح نشيد الجيش العثماني خلال العرض العسكري المشترك في العاصمة الأذربيجانية باكو بساحة آزادلق (عصفور الحرية باللغة العثمانية التركية)، بحضور الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، احتفالاً بالنصر في إقليم قره باغ. كان مشهداً مفعماً بتاريخ غابر، لكنه لم يكن مجرّد نوستالجيا استعراضية، بدليل أنّ أردوغان لم يكتفِ باستفزاز الأرمن ودول أوروبا غربها وشرقها على السواء، بل أثار الغضب المكتوم لإيران المجاورة لكلا البلدين المحتفلين بالنصر، عندما تلا أردوغان قصيدة الشاعر الآذري محمد إبراهيموف، الملقب بمحمد أراس، وهو يتحسّر على اقتطاع روسيا لأذربيجان الحالية عن إيران عقب هزيمتها أمام روسيا القيصرية وتوقيع معاهدة تركمانجاي معها عام 1828، فأصبح نهر أراس حداً فاصلاً آنذاك، بين أذربيجان الروسية وأذربيجان الإيرانية (وفي إيران آذريون أكثر مما في جمهورية أذربيجان).
ولم يكن أردوغان غافلاً عن معنى أبيات الشعر التي تلاها في ذلك الموقف المهيب، ولا عن أصدائها الجيوبوليتيكية الرمزية المؤذية لإيران. وليس مصادفة على ما يبدو، أنّ تقع الحادثة قبل يومين فقط من الذكرى الثالثة والعشرين لقراءة أردوغان أبيات شاعر عثماني هو محمد عاكف، في خطاب له في مدينة سيعرت جنوب شرق بتركيا، وهو ما تسبّب بسجنه عام 1997 لأشهر بتهمة التحريض على الكراهية الدينية. وكان أردوغان حينذاك رئيس بلدية إسطنبول عن “حزب الرفاه” بقيادة نجم الدين أربكان. وجاء في القصيدة: “مساجدنا ثكناتنا. قبابنا خوذاتنا. مآذننا حرابنا. والمصلون جنودنا”. أفاد أردوغان من الواقعة، فانشق عام 2001 عن أربكان الذي حُظر حزبه الجديد “الفضيلة”، وأسس مع رفاقه “حزب العدالة والتنمية”، وبدأ صعوده السياسي. بعد 23 سنة، اتهمه الإيرانيون بالتحريض على تقسيم إيران، بسبب أبيات شعر، وهدّده بعض النواب بمصير كمصير صدام حسين.
بالمقابل، رأى الخبراء الاستراتيجيون أنّ ما تحقّق في قره باغ هو أوضح نصر تركي استراتيجي أي أكثر مما تحقّق في سوريا ثم في ليبيا، وباستعمال التكنولوجيا، والتكتيكات العسكرية المناسبة، وتقديم المشورة. لكن الظاهر أيضاً أنّ القدرة التركية المتعاظمة على خوض الحروب بأسراب الدرونز (الطائرات المسيّرة)، تتطوّر من نزاع إلى آخر، وأحرجت حتى حلفاء المصلحة أي روسيا ثم إيران، كما أنّ الرغبة بالتدخل في مناطق الصراع تتزايد جرأة مرة بعد أخرى، فمن الاكتفاء بالسيطرة على حزام حدودي في سوريا، إلى صدّ الهجوم عن عاصمة ليبيا وتطويره إلى إقامة توازن استراتيجي مع بنغازي وحلفائها الإقليميين والدوليين، إلى استرداد معظم الأراضي التابعة لأذربيجان.
لم يكن أردوغان غافلاً عن معنى أبيات الشعر التي تلاها في ذلك الموقف المهيب، ولا عن أصدائها الجيوبوليتيكية الرمزية المؤذية لإيران. وليس مصادفة على ما يبدو، أنّ تقع الحادثة قبل يومين فقط من الذكرى الثالثة والعشرين لقراءة أردوغان أبيات شاعر عثماني هو محمد عاكف، في خطاب له في مدينة سيعرت جنوب شرق بتركيا، وهو ما تسبّب بسجنه عام 1997 لأشهر بتهمة التحريض على الكراهية الدينية
السؤال الذي يهمّ اللبنانيين خاصة، كما يهمّ غيرهم، هو هل يلتفت أردوغان إلى الحالة الانقسامية في لبنان، فيخوض مغامرة أخرى، ربما تكون أكثر إشكالية مما سبق؟ قد يقول قائل إنّ أردوغان تدخل في سوريا بعد تلكؤ لسنوات، درءاً لمخاطر قيام دولة كردية، ولردع النظام السوري من تهجير ملايين أخرى من السوريين إلى تركيا من خلال السيطرة على الشمال والشمال الغربي من سوريا. كما أنه تدخل في ليبيا دفاعاً عن حكومة يشارك فيها الإخوان المسلمون وسعياً لترسيم الحدود البحرية معها، وهو أمر حيوي في نزاعه مع اليونان والاتحاد الأوروبي في البحر المتوسط. أما في أذربيجان، فكان أردوغان يحمي خطوط النفط والغاز، ويوفّر ممراً تجارياً آمناً إلى العالَم التركي في دول آسيا الوسطى وإلى الصين. فما الفائدة من تدخل محتمل في لبنان، في المنطقة الشمالية ذات الغالبية السنية تحديداً؟
الجواب ليس صعباً العثور عليه، فوشائج الانجذاب إلى تركيا أردوغان قائمة بكل أنواعها ومستوياتها، والبيئة السنية تفتقر إلى الرعاية وإلى الحماية إذا ما انهار البلد. وبالمقابل، يمنح التموضع في الشمال لتركيا إذا ما حدث، نقطة ساحلية أخرى أقرب إلى قبرص، وورقة مساومة أخرى مع ربط النزاع بين لبنان وسوريا. لكن تشخيص الدواعي الداخلية للتدخل الدولي عموماً في لبنان يبقى هو الأهم.
فمع فشل الدولة في لبنان، لا انهيار الاقتصاد فيه وحسب، ومع إحباط التدخل الفرنسي السياسي والاقتصادي لإنقاذ الدولة المتداعية، ووضعها على سكّة الإصلاح الجذري والشامل، تنكفئ الطوائف على نفسها أكثر فأكثر، وتبرز تدريجياً سرديات مختلفة لهويات ثقافية منفصلة، وتتزعزع الرؤية الوطنية الجامعة، وتتداعى الأسطورة المؤسِّسة للبنان، في الذكرى المئوية لإعلان لبنان الكبير. وفي لحظة مفصلية حاسمة، بدل أن يتضامن اللبنانيون وزعماؤهم في مواجهة الخطر الوجودي الذي يهدّدهم دون تمييز، وهو خطر من صُنعهم، ومما ارتكبوه على مدى سنوات طوال، يتقاتلون حتى النَّفَس الأخير، على الصلاحيات الموهومة، وعلى الحصص الحزبية والطائفية في حكومة العُسرة، حكومة المهمة المستحيلة.
وما بين تشرين 2019 وتشرين 2020، انتقل لبنان من النقيض إلى النقيض. غداة ثورة اللبنانيين على زعمائهم، تشكّلت لحظة فريدة من التوحّد الشعوري والمصلحي متجاوِزة الانقسامات الطائفية والحزبية، حتى صعد نجم التيار المدني. ومع خفوت الثورة تحت الضربات المتلاحقة، صعد الخطاب الطائفي مجدّداً، وراحت تتشكّل مرة أخرى، لغة التأسيس تعبيراً عن الفشل في إيجاد رؤية مشتركة للطوائف، بدءاً من حلّ الأزمة الاقتصادية، وتقاسم مواقع الدولة، وصولاً إلى تصنيف الأعداء والأصدقاء، وقرار الحرب والسلم، فضلاً عن أنّ الاختلاف صارخ حتى في المستوى الرمزي، فما هو معظّم عند طائفة هو محتقر عند طائفة أخرى، وهكذا دواليك. وفي الحالتين، تلقّى اتفاق الطائف، ومعه الدستور، أقسى الحملات، محمّلين إياه موبقات مرتكبة منذ انتهاء الحرب، وكأنه لم تكن حرب أهلية، ولا نزاع على الدولة بين الطوائف قبله!
في لحظة مفصلية حاسمة، بدل أن يتضامن اللبنانيون وزعماؤهم في مواجهة الخطر الوجودي الذي يهدّدهم دون تمييز، وهو خطر من صُنعهم، ومما ارتكبوه على مدى سنوات طوال، يتقاتلون حتى النَّفَس الأخير، على الصلاحيات الموهومة، وعلى الحصص الحزبية والطائفية في حكومة العُسرة، حكومة المهمة المستحيلة
وتتلخّص أَمارات تفكّك لبنان فيما يأتي:
1- قد لا يكون اللبنانيون شعباً واحداً، لأنهم طوائف ومذاهب، مع أنّ بعضهم ما يزال يعتقد جازماً أنّ معظمنا فينيقيون كنعانيون. وقد لا تكون أهواؤهم أو أساطيرهم مشتركة، لكن مع ذلك المصلحة تجمعهم. وهذه المصلحة المشتركة في لبنان الحالي، هي التي صنعت الميثاق الوطني. وحتى في أقسى حالات الحرب الأهلية، صمد لبنان لوجود هذه المصلحة المشتركة، وكان التعبير الأوفى عنها، هو مصرف لبنان، أي استقرار الليرة. صمدت الليرة فصمد لبنان خلال الحرب. ومع انتهاء الحرب، كانت المصلحة أيضاً متمثّلة ببقاء دور لبنان في المنطقة، من خلال علاقاته الوثيقة مع دول الخليج خاصة. ما حدث أخيراً، أنّ الليرة تنهار، والمصارف تنهار، ومصرف لبنان تحت طائلة المحاسبة، وفي الأثناء ضاع دور لبنان، لأسباب سياسية واقتصادية. وعليه، بدأ البحث عن مصائر منفصلة لطوائف متخاصمة، في صيغ افتراضية غامضة.
2-إلى ما قبل التسوية الرئاسية عام 2016، كانت الدولة اللبنانية تكابد كي توفّق بين وجودها السيادي في الداخل، وبإزاء الدول الأخرى، وبين كيان سيادي آخر داخلها يمتلك حرية امتلاك أداة العنف، وقرار الحرب والسلم مع الخارج. فلما انعقدت التسوية الرئاسية، وقع عبء إضافي على كاهل الدولة. فالطرف الآخر من التسوية، وهو التيار الوطني الحرّ، يعلن رفضه لاتفاق الطائف لعام 1989، الذي هو نقطة التقاء وسطى بين الطوائف، وكناية عن مجمل المشاريع الإصلاحية منذ الاستقلال، وهو ذروة التجربة اللبنانية المريرة. جاء هذا الطرف، لينقلب على الدستور باسم تطبيقه، ولينسف اتفاق الطائف باسم استعادة الحقوق المسيحية المهدورة، أي صلاحيات رئيس الجمهورية تحديداً، أي العودة إلى ما قبل السلام الأخير، أي إلى الحرب ولو كانت باردة الآن. بل أعادنا جبران باسيل بخطابه الاستفزازي، إلى ما قبل الاستقلال، وقبل الميثاق الوطني، راجعاً بنا إلى لحظة الخلاف حين إعلان المستعمر الفرنسي باسم الانتداب عام 1920، تشكيل لبنان الكبير.
3-في ذروة الأزمة المالية والصحية، وقع انفجار مرفأ بيروت في 4 آب المنصرم، فأطاحت آثاره المدمرة إنسانياً واقتصادياً وسياسياً بما بقي من مصلحة مشتركة. فإن كان سبب الكارثة، تبعات اندماج الدولة والحزب في كيان واحد، مع تقاسم الصلاحيات السيادية واقعاً، فهذا يُعيدنا إلى المربع الأول وإلى السؤال الأساس، وهو العلاقة بين الطوائف. وإن كانت الكارثة جرّاء فشل الدولة بأجهزتها وإداراتها كافة، فهذا يعني أن لا مصلحة مشتركة في هذا الوعاء الجامع. وفاقم الأمر سوءاً، العجز عن إجراء تحقيق قضائي شفّاف ومقنع، وعن تقديم الإجابات الشافية عما الذي حدث حقاً، ومن هو المسؤول. ومن ذلك الوقت، ظهرت على نحوٍ أكثر علانية، رغبة مسيحية في مسار مختلف لنظام آخر، من العودة إلى المطالبة بتطبيق اللامركزية الموسعة كما نصّ عليها الدستور، إلى تجدّد الحديث عن الفدرالية، وبدأ التداول في خرائط محتملة (المونسنيور كميل مبارك، عميد الدكتوراه في جامعة الحكمة سابقاً، والقريب من قصر بعبدا، يتحدّث عن انعدام الحسّ المشترك بين اللبنانيين، ويعلن عن مشروع نظام فدرالي بديل من النظام الحالي، مكوّن من 12 مقاطعة، اثنتان لكل من السُنة والشيعة والدروز والموارنة والروم الأرثوذكس والكاثوليك، وحدّد للسُنة طرابلس وصيدا فقط).
إقرأ أيضاً: حصار تركي – أذربيجاني برعاية روسية لإيران
يغامر الباحثون عن نظام بديل من الطائف، بالسلم الأهلي وبالاستقرار الاقتصادي، من خلال الانكفاء على الذات، والبحث عن خلاص الطائفة لا الوطن حتى لو رأوه فدرالياً. وأخطر ما يخطئون فيه، استضعافهم للسُنة، واستهداف رموزهم وقاداتهم وناشطيهم، واختزال حجمهم ودورهم، غير مدركين أنهم بذلك يفتحون ثغرات واسعة للتدخلات الخارجية على مصراعيها، ليس أقلها تدخل العثمانيين الجدد، تحت عنوان بات رائجاً في أذربيجان: “شعب واحد في دولتين”، وهذه المرة سيكون من زاوية مذهبية لا قومية.
للوهلة الأولى، قد يبدو هذا الكلام غريباً ومستهجناً. إلا أنّه في القواعد العلمية هناك واحدة تقول بأنّ الفراغ لا يمكن أن يستمر ولا بدّ من أن تملأه قوةٌ أو جهةٌ ما. أين العرب؟؟؟