ما تقوله هالة الوردي “تقليديّ” بمعنىً من المعاني. فالباحثة التونسية عرفت كتبها الثلاثة باللغة الفرنسية، بدءاً من “أيام محمّد الأخيرة” إقبالاً هادئاً – نوعاً ما – من القرّاء الفرانكوفونيين في بيروت. ولم تغب عن طاولات العرض في معظم فروع “مكتبة أنطوان” في السنوات الأخيرة. وهي زارت بيروت مؤخّراً بقصد تصوير حلقة تلفزيونية حول أعمالها وما أثارته من جدل خارج لبنان وليس فيه. هذا قبل أن يقفز اسمها إلى الواجهة بشكل متوتّر ومفاجىء في عزّ “موسم الكورونا”، على خلفية نصيحة نائبة رئيس التيار العوني مي خريش بقراءة “الأيام الأخيرة”، من جملة ما يمكن قراءته لمداواة ضجريات الكورونا بالتثاقف، وما أثاره ذلك من ردّات فعل.
إقرأ أيضاً: في الطائرة مع “المزعجة” مي شدياق قبل الكورونا!
قد يكون للتشنّج من نصيحة خريش، وإدغام خريش والوردي معاً في قالب واحد، سياقه بالنسبة إلى المتصالحين مع أنفسهم من أصحاب النظرة المحافظة دينياً على طول الخطّ. نظرة قوامها التفريق بين “دين الحقّ” وبين “الباطل”. وهذه ترفض آلاف المؤلفات التي وضعت حول تاريخ الإسلام والمسلمين جملة وتفصيلاً، وليس فقط كتب الوردي. فمشكلة هؤلاء مع هالة الورديّ لا يفترض أن تكون مختلفة عن مشكلتهم مع “رودنسون” أو “غولدتسيهر” أو “مونتغمري وات” أو “مايكل كوك” أو “باتريسيا كرونه” أو “جاكلين شابي”. ينقسمون بعد ذلك بين من يجيز، بل يوجب، قراءة هذه الكتب للردّ عليها، وبين من يذهب إلى غير ذلك من موقف ومسلك.
المعادلة العونية: ديننا بالإيمان، ودينكم بالتاريخ
أمّا تسابق من جاهر بـ”جو سوي شارلي” قبل سنوات قليلة إلى إبداء الرأي في كتب لم يقرأوها فيطرح أكثر من إشكال. ولا يقلّل من ذلك أن “قراءة” خريش لكتاب هالة كان “رمزياً” للغاية بحيث استطاعت التخفّف من نصحها بالكتاب في اليوم التالي، ليس فقط تحت ضغط “البيئة الدينية المقابلة”، وإنّما كشكل من أشكال إعادة ترسيم الحدود – الأسوار بين أتباع الديانات المختلفة في لبنان، بعد أسابيع قليلة على “حيوية” العونيين في أزمة التراب المصلّى عليه في دير مار شربل، وإدخاله أو عدم إدخاله إلى مستشفى رفيق الحريري الحكومي، إذ يفترض أن يكون في المنطقة المحايدة دينياً بين الطوائف.
في لحظة ما، عابرة إذاً، انتابت القيادية العونية نزوة أن تكون نصيرة لدعم المجهود التنويري عند المسلمين، من خلال نصحهم بقراءة ما يخرج عن مألوف السيرة التقليدية للرسول العربي، من أوّل سيرة ابن اسحاق التي هذّبها ابن هشام وصولاً إلى السيرتين الشامية والحلبية، من دون أن يظهر في المسلك العوني حماسة مشابهة لدعم المجهود التنويري عند المسيحيين أنفسهم. هنا، في الجانب المسيحي”، “الإيمان يحكم”، لا قوانين التاريخ، وهناك، عند المسلمين، ينبغي الإستناد إلى قوانين التاريخ، وإلى البحث العلمي التاريخي الذي لا يعرقله أيّ محظور.
بدلاً من التصويب على انعدام التوازن في هذا المسلك “الخريشيّ” القائم على معادلة “ديننا يفهم بالإيمان وحده، ودينكم يفهم بالتحقيق التاريخي، بل حتّى بالرواية الأدبية – التاريخية”، فقد جنحت ردّات الفعل إلى دمج خريش والوردي كما لو كانا شخصاً واحداً، وفكراً واحداً، وكما لو أنّ المشكلة الأساسية هي عند هالة الوردي. لا يلغي هذا في المقابل أنّ هناك مشكلة أساسية تتصل بخطورة التشنّج من نصيحة تقدّم بقراءة كتاب، أياً كانت الشبهة وراء نصيحة كهذه. زدْ على أنّه كتاب غير محظور، وكتاب “استُدعِيَ” قسراً إلى لحظة توتر طائفية في البلد، في عزّ موسم الكورونا – المطيّف على طريقته هو الآخر. لا من نصح به قرأه جديّاً، ولا من توتّر ضدّه قرأه.
هالة الوردي: الاعتماد فوق اللزوم على كتب التراث
والكتاب، أو كتب الوردي “تقليدية”. تقليدية إذا ما نظر اليها من زاوية الحقل العلمي البحثي المتّصل بالدراسات المعاصرة حول فترة تشكّل الإسلام، أو “الإسلام المبكر”. فهذا الحقل، كما تطوّر في الأكاديميا الغربية، يقوم على مراجعة أساسية لما دأب عليه الاستشراق في ميدان الإسلاميات من القرن التاسع عشر وحتى سبعينيات القرن الماضي.
طيلة تلك الفترة، كان المستشرقون الغربيون المتبحّرون في التراث الإسلامي يتعاملون مع ما يتضمّنه هذا التراث حول فترة الإسلام الأول، وبخاصة في أدب السيرة والمغازي والأخبار، على أنّه يتضّمن “نواة تاريخية” يمكن إعادة تركيبها، سواء بالانطلاق من تقاليد التثبّت والردّ في المتن والسند (التعديل والتجريح) التي تضمّنها هذا التراث، أو بالاعتماد على فقه اللغة ومنهجيات علم التاريخ وكل ما أوتي في ميدان الألسنيات والإنسانيات. بقيت هناك دائماً نظرة إلى أنّ هذا التراث الإسلامي، ورغم الفاصل الزمني المعتبر بين الفترة المعنيّة بظهور الإسلام وبين فترة تدوين السيرة والحديث، هو تراث يغلّف نواة تاريخية ما، يمكن إجلاؤها من خلال سبره وفحصه والموازنة بين أجزائه.
بالنسبة إلى هالة الوردي كما بالنسبة إلى المستائين منها، “الحقيقة التاريخية” حول فترة الإسلام المبكر موجودة مبعثرة في كتب التراث الإسلامي، ويدور الخلاف بعد ذلك على منهجيات استنباطها. هنا تكمن تقليدية هالة، وهناك تكمن التماثلية معها حتى من قبل ألدّ منتقديها
هالة الوردي بقيت هنا، في ما أمسى تقليدياً اليوم، ومفترض طيّ صفحته، من زاوية الدراسات حول الإسلام المبكّر التي لم تعد تقبل بفكرة البحث عن نواة تاريخية قائمة بذاتها في التراث المدوّن من بعد مناقلة شفهية لأجيال عديدة. بل أخذت تشترط العودة إلى الحفريات، بدءاً من دراسة المسكوكات في القرن الأول للهجرة، والآثار الأولى لما كتبه معاصرون لفترة الإسلام المبكّر بين رهبان القبط والسريان والموارنة والأرمن وأحبار اليهود، زدْ إلى إعادة وضع زمن ظهور الإسلام في سياقه التاريخي – العصر القديم المتأخر وصراعاته وثقافاته.
منهجية “لعبة البازل”
لا تنتمي هالة الوردي إلى آخر خمسين عاماً من الإنتاج البحثي حول الإسلام المبكر، المتشعّب والمرهق، والمليء بالعجلة والضبابية والمعيارية في نفس الوقت، إنما الذي لا يمكن “تفاديه”.
تنتمي إلى تقليد ما زال يفكّر بأنّه من الممكن الوصول إلى “النواة التاريخية” لفترة ظهور الإسلام انطلاقاً من التراث الإسلامي نفسه، ومن البحث بين طيّاته وتجميع المسكوت عنه بين ثناياه المفصح عنه، كمن يجمّع لعبة “بازل”. وليست مصادفة أن تكون لعبة البازل عادت للرواج مؤخراً، على خلفية “حبسة الكورونا”، وأن يكون منهج تجميع قطع “البازل” بين ثنايا كتب التراث، على ما قامت به هالة الوردي، تحوّل، بمصادفة غريبة عجيبة، إلى عنوان لاحتقان ديني طائفي في لبنان مؤخراً.
بالنسبة إلى هالة الوردي كما بالنسبة إلى المستائين منها، “الحقيقة التاريخية” حول فترة الإسلام المبكر موجودة مبعثرة في كتب التراث الإسلامي، ويدور الخلاف بعد ذلك على منهجيات استنباطها. هنا تكمن تقليدية هالة، وهناك تكمن التماثلية معها حتى من قبل ألدّ منتقديها.
لئن كانت أعمالها لم تُثِر جدلاً قبل ذلك في بيروت، فإن سجالاً حامي الوطيس دار في تونس بينها وبين المؤرّخ هشام جعيط. فجعيط الذي أصدر هو الآخر نموذجه في إعادة كتابة السيرة النبوية، بشكل يمكن القول إنّه توفيقي بين السردية التراثية – السراطية والسردية الاستشراقية، مع مسحة سوسيولوجيا تاريخية، حمل على هالة واتهمها بـ”تحقير لفترة من التاريخ أعطتها شكل الرواية، وأعطت من وراء ذلك الرواية شكل التاريخ المدقّق والمحقّق”. في المقابل، هالة الوردي تتنمي إلى جيل أكاديمي تونسي عنده حساسية بالغة من هشام جعيط، بل إنّ “الأنتي جعيطية” بمثابة هوية لديه كجيل. وهي انطلقت من التراث، إنّما لتوسع دائرته ليشمل المصادر الشيعية، ويمكن القول هنا إنّ هناك نزعة “أكزوتية” في تناول المصادر الشيعية بين الباحثين المعاصرين من شمال أفريقيا على قاعدة أنّهم، وهم يبحثون عن المسكوت عنه، وجدوا ضالتهم في هذه المصادر. هذا من دون أن يجعل هالة ميّالة إلى “التحزّب الشيعيّ” حول فترة الإسلام الأولى، بل إنّها، إذا ما جازفنا بعض الشيء، تكاد تستعين بمرويات السنّة على الشيعة، وبمرويات الشيعة على السنّة.
للملمّ في التراث، ليست هذه أوّل مرة تطرح ظلال من الاستفهام حول حيثيات وفاة الرسول، لكنّ الوردي تحاكي في سردها هنا، أو تستعيد، الأسلوب الذي اعتمده سيغموند فرويد في “موسى والتوحيد” حول حيثيات وفاة موسى
عندما تكمل هالة تركيب قطع لعبة البازل بالقفز على القسمة المذهبية، تخرج بسردية غير تراثية وغير سراطية، إنّما من مصادر بحت تراثية، مستلّة من ثنايا كتب الطبري والواقدي وابن هشام وابن سعد وابن كثير.
مقام السرد.. والبحث عن “خطيئة أصليّة”
وهنا مضيعة للوقت تكرار القول بأنّها لا تركن إلى منهجيات التعديل والتجريح التراثية، ولا إلى منهجيات التحقيق التاريخي الحديثة. هي تعرف ذلك، ولا تدّعي غير ذلك. إنها، على طريقتها، شغوفة بـ”خبر الواحد”. وهنا أهميتها – في سياق محدّد: أهميتها، أو إسهامها، في أنّها تقدّم لنا تمريناً متواصلاً حول ما يمكن أن تقوله أمهات كتب التراث الإسلامي، حول فترة الإسلام المبكر، إذا ما استندنا إلى تقنيات السرد والحبكة السردية الأدبية لوحدها. اختزال؟ نعم. لكنه تمرين بحثي وتأملي له إسهامه، شرط تحديد نطاقه. إذاك فقط سيظهر ما هو غير تقليديّ، وما هو جدير بالقراءة. فما تقول الورديّ أنّه غلبت في النظرة إلى فترة الإسلام المبكر إمّا نظرة “سراطية” محكومة بمفهوم الإجماع، إجماع الصحابة المستمر لعقود بعد وفاة الرسول وإلى قيام الفتنة الكبرى، وإمّا نظرة تعتبر بأنّ الخلافات على السلطة وعلى تفسير الدين نشأت فقط بعد وفاة الرسول (مثلاً الكيفية التي أعاد خلالها علي عبد الرازق تفسير “حرب الردّة” كحرب أهلية بين المسلمين)، في حين أنّ ما تعيد نسجه من “سرد” بديل، يُظهر أنّ هذه الخلافات كانت محتدمة للغاية خلال السنوات الأخيرة من حياة محمّد، وبالذات بعد هزيمة المسلمين في غزوة مؤتة أمام الروم. بالتالي فهي تقلب المعادلة: لم تكن وفاة الرسول لحظة انفجار التناقضات في الجماعة الأولى، بل كانت وفاته نتيجة لانفجار هذه التناقضات.
للملمّ في التراث، ليست هذه أوّل مرة تطرح ظلال من الاستفهام حول حيثيات وفاة الرسول، لكنّ الوردي تحاكي في سردها هنا، أو تستعيد، الأسلوب الذي اعتمده سيغموند فرويد في “موسى والتوحيد” حول حيثيات وفاة موسى. إسهام هالة الوردي يقول لنا إنّ هناك فضاءً للسرد التاريخي لا هو بتأريخ يلتزم منهجيات بحثية إما خاصة به، أو مخلّطة مع منهجيات العلوم الإنسانية، ولا هو من النوع الأدبي المسمّى “الرواية التاريخية”. مفارقتها أنّها تصرّ مع ذلك أنّ ما تكشفه “حقائق تاريخية” مستدلّة باحتقان بردّات الفعل السلبية تجاه أعمالها. لكن جزءاً أساسياً من هذه “الحقائق” بديهي، وهي أنّ الصراعات والتناقضات موجودة في كلّ جماعة، بما في ذلك الجماعة الإسلامية الأولى منذ أول تشكّلها، ولم تنتظر لا وفاة الرسول ولا اغتيال ثلاثة من الخلفاء الراشدين الأربعة لتنفجر. أمّا الجزء الآخر، فهو “لا تاريخي” بامتياز، بخاصة حينما تبحث عن تفسير لما يعيشه المسلمون في عالمنا اليوم بالتفتيش عن “خطيئة أصلية” في الزمن الأوّل لظهور ديانتهم. هذا، بكلّ بساطة، لا معنى له أو أقله لا جدوى منه، وهو فكرة ماورائية بامتياز. تفكيك التصوّرات التراثية حول “الحقبة الذهبية” شيء، وتفسير الواقع الحالي على أنّه بسبب كبت الحقيقة التاريخية التي طمستها سردية “الحقبة الذهبية” شيء آخر. لن تقتنع هالة الوردي بذلك، لأنّها تنتمي إلى فئة تعتبر أنّه طالما هناك من يتعامل مع الحقبة الذهبية المتخيّلة الأولى على أنّها كانت كذلك، فإنّ معالجة ذلك يكون بالذهاب بعيداً في تفكيك الحقبة الذهبية، والخروج بخلاصة مفادها أنّها لم تكن ذهبية أبداً، بما أنّ الصراع على السلطة لم يعقب وفاة الرسول، بل سبق هذه الوفاة وربّما تسبّب بها. مشكلتها كمشكلة أيّ انسان يعتبر أن كلّ شيء صراع على السلطة. فهذا صحيح وخاطىء في نفس الوقت. كل شيء صراع على السلطة نعم، ولكن إذا ما اعتبرنا أنّ كلّ شيء صراع على السلطة، لا يعود مفهوم الصراع على السلطة أداة مناسبة لفهم الصراع على السلطة.