سقط “الكابيتال كونترول” وهذا هو البديل

مدة القراءة 5 د


لقي مشروع قانون “الكابيتال كونترول” قدَرَه اللائق به. ففذلكته سقطت في اختبارين: الاختبار العلمي التقني، واختبار موازين القوى لدى أهل الحلّ والعقد.

لندعِ الجانب المتعلّق بالمواءمة السياسية جانباً، ولنناقش الجانب التقني.

مشكلة المسودّة التي قدّمها وزير المال غازي وزني أنّها قامت في فلسفتها على خلط واشتباه بين هدفين: حماية البنوك من تهافت المودعين (bank run)، وحماية ميزان المدفوعات.

يجب أن يكون الهدف من القيود على حركة الأموال حماية ميزان المدفوعات وليس التغطية على البنوك المفلسة

الفارق بين الهدفين شاسع، فالثاني مقبول في الظروف الاستثنائية، وله سوابق ناجحة، آخرها في مصر. والإطار النظري هنا هو وضع قيدٍ كمّي على حجم الأموال الخارجة من البلاد في مدى زمني معيّن لا يتجاوز ثلاثة أعوام، لهدف محدّد هو وضع سقف مقبول للعجز في الحساب الجاري، وتالياً في ميزان المدفوعات. وبطبيعة الحال، لا بدّ أن يتلازم ذلك مع خطة إصلاح مالي واقتصادي يقرّها صندوق النقد الدولي، ويكون من أهدافها معالجة العجز التوأم، في الميزانية العامة والحساب الجاري بالتوازي.

هدف كهذا يجعل من الممكن تطبيق قيود موحّدة على جميع البنوك، من دون أن يمتدّ نطاقها إلى المدى الذي وصلت إليه في لبنان.

أمّا حماية البنوك من الإفلاس، فليس من وظيفة القيود على رأس المال تحقيقه، بل إنّ من غير الأخلاقي إلصاق هذه الوظيفة الضمنية بقانون “الكابيتال كونترول”، لأنّ معنى ذلك أن المشرّع يمنح لأصحاب البنوك حق احتباس أموال المودعين لمنع إفلاس مؤسساتهم الربحية.

إقرأ أيضاً: سلامة يستطلع بنار “التعميم” كذب المصارف

نعم، قد يصحّ وضع قيود في مدى قصير جداً واستثنائي، لكن في إطار مختلف عن قانون “الكابيتال كونترول”. هو إطار خطة محدّدة لإعادة هيكلة رؤوس أموال البنوك، لا يتجاوز إطارها الزمني السنة الواحدة.

لماذا يجب، أخلاقياً وعملياً، الفصل بين المسارين؟

لا بدّ من فرز بنكين إلى أربعة “بنوك جيدة” تُعلن مراكزها المالية بشفافية لتعيد الانتظام إلى العمل المصرفي

لأنّه عندما يكون الأمر متعلّقاً بملاءة البنوك، لا يمكن تطبيق القيود نفسها عليها جميعاً (one size fits all)، ببساطة لأن انكشافات البنوك على الأصول الرديئة متفاوتة، وملاءة رأس المال ليست واحدة. فإذا ما طُبقت القيود نفسها على الجميع سنقع في واحد من احتمالين:

– إما أن نطبّق المعايير الأشدّ لئلا يسقط أيّ بنك، وبذلك نعطّل إمكانات القطاع المصرفي، ونغذّي حال الهلع وانعدام الشفافية.

– وإما أن نطبّق قيوداً دون ذلك، فتفلس حزمةٌ من البنوك، وتمتدّ المخاطر النظامية لتلك الإفلاسات فتعمّ القطاع كله.

المعروف لدى المطّلعين أنّ أيّ قيود، مهما بلغت شدّتها، ستؤدّي إلى إفلاس عدد كبير من البنوك، وبسبب هذه المعضلة يحاول مصرف لبنان أن يبقي بيده مفتاح تحديد سقف السحوبات، وتؤازره في ذلك جمعية المصارف. لأنّه لا يريد أن يتورّط بتوفير السيولة للبنوك التي ستسقط في أول الطريق.

البديل عن هذا الخلط العودة إلى إيضاح الهدف من القانون بأنه للتغلّب على العجز في الحساب الجاري أو ميزان المدفوعات، لا أكثر ولا أقل.

أما أزمة ملاءة البنوك فلا بدّ من معالجتها في إطار مختلف، من خلال ورشة كبيرة لا تتجاوز مدتها السنة الواحدة، ترتكز إلى الأسس الآتية:

1.   المهمة العاجلة فرز ما بين بنكين إلى أربعة بنوك، تُصنّف، أو يمكن يمكن تحويلها إلى “بنوك جيدة” (good banks)، تتمّ رسملتها، وتُعلن مراكزها المالية بشفافية لاكتساب الثقة، ولا ضير في أن تتملّك الحكومة حصصاً فيها من خلال صندوق ذي غرض خاص، على غرار برنامج إنقاذ الأصول المضطربة الأميركي (TARP)، لتتمكّن من أداء وظيفة الوساطة المالية في الاقتصاد. فالاقتصاد الوطني لا يحتمل تعطيل الوظيفة المصرفية أكثر من ذلك.

2.   تُحال إلى هذه البنوك ودائع صغار المودعين، بما لا يتجاوز المئة ألف دولار. كما تًحال إليها بعض الأصول الجيدة. وسيقود ذلك سريعاً إلى انتظام العمل المصرفي في هذه البنوك بلا قيود، فتعود إليها أموال الناس المخزّنة في المنازل، والتي تنتظر وجود بنوك لتودع فيها.

3.   تُتْرك الودائع الأخرى في البنوك الرديئة (bad banks)، والبنوك الشبحية (zombie banks) لمرحلة أخرى من المعالجة في إطار زمني لا يتجاوز السنة، يتمّ خلالها دمج ما يمكن دمجه، وتصفية ما تجب تصفيته.

4.   تتزامن إعادة هيكلة البنوك مع التفاوض مع حاملي الدين الحكومي، لأنّ المسألتين مترابطتان. فمقدار الخصم من الدين الحكومي يحدّد مقدار الفجوة الرأسمالية في القطاع المصرفي.

حماية البنوك من تهافت المودعين لا يكون من خلال “الكابيتال كونترول”، بل عبر خطة لإعادة هيكلة القطاع خلال سنة واحدة

لكن لا بدّ من الالتفات هنا إلى أنّ أزمة تفشّي وباء كورونا خلطت الأوراق، وأنتجت وقائع جديدة مختلفة تماماً الاختلاف عن كلّ ما سبق. فحيثما تنظر عالمياً تجد البنوك في وضع استثنائي، استدعى تدخّلاً من كبرى البنوك المركزية العالمية لضخّ تريليونات الدولارات لتوفير موارد لمساندة  قطاعات الأعمال، والشركات الصغيرة والمتوسطة، والأفراد من أصحاب من الأعمال الحرة، والموظفين الذين يفقدون وظائهم ويصبحون عاجزين عن سداد قروضهم.

كلّ ذلك يترك آثارا كبيرة على بيانات البنوك، استدعت من كثير من البنوك المركزية تعليق تطبيق بعض المعايير الرقابية الكميّة، وإعطاء وقت أطول لاستجماع البيانات المالية. ووصل الأمر بالبنك المركزي الأوروبي أن طلب من البنوك في منطقة اليورو عدم توزيع أرباح حتّى تشرين الأول المقبل على الأقل، لتوفير السيولة لأغراض أكثر إلحاحاً.

في عين العاصفة يصعب حصر الأضرار. هذا هو الحال اليوم مع أزمة كورونا. لا يمكن في الوضع الحالي معرفة المراكز المالية الواقعية للبنوك، ولا تحديد حاجات الرسملة لكلّ منها. فحتّى المليء منها عندما بدأ وزني كتابة مسودته ربما أصبح رأسماله الآن كعصف مأكول.

غير أنّ ذلك لا يلغي الأسس السليمة لالتماس طريق الخروج من الأزمة، وأهمها التخلّي عن فكرة التغطية على حال البنوك المفلسة بفذلكات قانونية غير سائغة.

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…