عندما يصبح إغلاق المساجد من “ضرورات العصر”

مدة القراءة 6 د


رفض اللبنانيون مع بداية تواتر المعلومات عن جائحة كورونا التصديق بأنّهم يجب عليهم التعايش مع هذا الكابوس، وأنّ عليهم أنْ يغيّروا أنماط حياتهم الشخصية والاجتماعية والدينية.. فتجاهلوا مخاطره، بدءاً من حكومتهم وليس انتهاءً بعموم الناس الذين واصلوا حركتهم وكأنّه ليس هناك أيّ مخاطر تحدق بهم.

منهم من أخذته العزّة الجاهلية، كما جرى في بعض المناطق، فلجأت العائلات والعشائر والتجمعات والبلدات إلى رفض الاعتراف بالوقوع بين براثن المرض وذهبت تستبرئ من وصول الوباء وكأنّه عارٌ وعيب، وهذا بدوره أسهم في خدمة الكورونا ووفّر لهذه الجرثومة طرقات سالكة مع كامل التسهيلات.

إقرأ أيضاً: كوكب ما بعد الكورونا والحنين إلى تفاصيلنا المملّة

إعترض بعض اللبنانيين بالرقص في الشوارع  كنوعٍ من الهستيريا الجماعية المتمسّكة بمظاهر الانفلاش والحركة، لكنّهم سرعان ما اكتشفوا أنّ ما فعلوه وأنّ تدفـّقهم على كورنيش بيروت لم يكن أكثر من تعبيرٍ عن رفض التأقلم مع الغازي المتوحّش الذي يهزّ دعائم المجتمعات في الشرق والغرب على حدٍّ سواء، ويفرض عليها العزلة قهراً وقسراً.

بالتوازي مع كلّ هذا الصّخب، كان الجدلُ حول الصلاة في دور العبادة، سواء كانت الكنائس أم المساجد، وقد شاهدنا اعتراض رعية “مار زخيا” في عجلتون خلال القدّاس الإلهي إثر رفض المؤمنين أخذ المناولة باليد وإصرار الكاهن على تنفيذ قرار المطارنة الموارنة وعدم المناولة بالفم. وقد انتهى الإشكال بإلغاء القدّاس، ليثير ذلك غضب البطريرك مار بشارة بطرس الراعي، ولينتهي الأمر بقرار تعليق الطقوس الكنسية بسبب جائحة كورونا.

ومع تعاظم مخاطر جرثومة كورونا واتّساع انتشارها في لبنان، أعلنت دار الفتوى حالة الطوارئ في مؤسساتها ومساجدها “مكافحةً لتفشّي فيروس كورونا بين المواطنين في لبنان”، بحسب البيان الصادر عنها.

البيان أوضح أنّه: “وبعد التداول بين مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان والمفتين وأمين الفتوى في الجمهورية اللبنانية والمدير العام للأوقاف الإسلامية والعلماء، سيتم إغلاق المساجد يوم الجمعة، وتعليق الصلوات فيها مؤقتاً أمام المصلّين، مع إبقاء رفع الأذان في مواقيت الصلاة، وقد تدرّجت الفتوى في هذا الموضوع باعتبار أنّ “الضرورة تـُقدّرُ بقدرها” وحيث إنّ الضرر أصبح غالباً كما أفاد الخبراءُ من الأطباء بناءً على القاعدة الفقهية “أهلُ الخبرة محكّمون” (..) وانطلاقاً من مقاصد الشريعة الإسلامية التي نصّت في كلياتها الخمس على حفظ النفس البشرية وعملاً بنصوصها الشرعيّة، الواجب تطبيقـُها على كلّ مسلمٍ ومسلمة، ولأنّ الأخذ بالأسباب مطلوبٌ، تَسقط صلاةُ الجمعة والجماعة عند التيقّن أو غلبة الظن بحدوث الإيذاء والضّرر استناداً إلى القاعدة الشرعية “لا ضررَ ولا ضِرار” ويصلّي النّاس في بيوتهم”.

جاء بيانُ دار الفتوى واضحاً ولا يحتاج إلى تفسيرٍ أو تأويل، فالمعادلة تعبـّر عن نفسها: وباء كورونا يجتاحُ العالم، وقد اقتحم لبنان، وبات يطرق أبواب المدن والبلدات والحارات والشوارع والبيوت، ويتصاعدُ في مستويات انتشاره، معتمداً على العدوى المتأتية عن الاحتكاك البشريّ والاختلاط بكلّ أشكاله. ولا سبيل لوقف موجاته ومحاصرتها سوى من خلال الاعتكاف داخل المنازل وتعليق كلّ النشاطات الاجتماعية، إلاّ الضروريّ منها المتعلّق بتأمين الأساسيات والاكتفاء بها، إلى حين التمكّن من السيطرة عليه من خلال حرمانه من وقود الانتشار بالاختلاط، أو التوصّل إلى دواء يحمي البشرية من هذه الجائحة المخيفة.

من الناحية العاطفية غلب على المسلمين شعورٌ هائل بالحزن الشديد نتيجة رؤيتهم أنّ المساجد باتت مغلقة دونهم، وأنّ المسجد الحرام ومسجد النبي محمد صلى الله عليه وسلم خاليان من المصلّين، وهذه مشاهد مؤلِمة للمؤمنين المتعلّقة قلوبُهم بالمساجد، وهي لحظاتٌ صعبة، بما لم يسبق أن شهدها النّاس بهذا الشمول وبهذه القسوة.

لجأ المشايخ الرافضون لفكرة تعليق الصلاة في المساجد إلى مجموعة اجتهاداتٍ واستشهاداتٍ من التّاريخ الإسلامي، لا تشكّل رؤيةً متماسكة. بعضها يستند إلى حِسن النيّة، لكنّها تفتقر إلى الإجابة على أسئلة الواقع حول كيفية التعاطي مع إشكالية انتشار جرثومة كورونا وتحقـّق المخاطر. ولا شكّ أنّ الاجتماع للصلاة يشكّل موقعاً خصباً للعدوى، خصوصاّ أنّنا شاهدنا معظم من اعترضوا وأقاموا صلاة الجمعة، لم يقوموا باتخاذ الاحتياطات اللازمة.. وسط فكرة الخوف من أن يشمل الله سبحانه المسلمين بغضبه بسبب إغلاق المساجد.

ربما كان صوتُ الجدل كبيراً في الأيام الماضية. لكن مع انكشاف الأرقام واقتراب وحش كورونا من الجميع، سيسودُ صوت العقل المستجيب لنداء الدار وصوت الدين

لم يقدّم الرافضون لقرار الإغلاق اجتهاداً متكاملاً يدمج ما بين السند من الكتاب والسنـّة النبوية الشريفة وبين التحدّي الذي نواجهه اليوم، وسط تقاذف نصوصٍ تحتاج إلى التمحيص والتدقيق في دلالاتها أوّلاً وفي مدى إلزاميتها ثانياً، كونها شكّلت في حينه اجتهاداً من أهل زمانها، الذين كانت علومهم لا تسمح لهم بالرؤية التي قدّمها العلم اليوم.

فهل يكفي الاستناد إلى اجتهاد المسلمين في عصرٍ من العصور لإلزام مسلمي هذا العصر بما اجتهد به الأوّلون، وقد اختلف الزمان واستوجب الاجتهادُ بالفتوى بما يتوافق مع حقائق وعلوم هذا العصر واحتياجات الناس فيه.

لا بُدّ من الاعتراف في هذا السياق بأنّ أحد الإشكالات الكامنة وراء رفض شريحة من المسلمين قرار دار الفتوى، هو ذلك البون الشاسع الفاصل بين الدار والناس، والناتجة عن تراكماتٍ ليس هذا مقامها جعل القرار أقلّ فاعلية.

ربما كان صوتُ الجدل كبيراً في الأيام الماضية. لكن مع انكشاف الأرقام واقتراب وحش كورونا من الجميع، سيسودُ صوت العقل المستجيب لنداء الدار وصوت الدين.

فالدعوة إلى تعليق الصلوات في المساجد ليست استجابة لسلطانٍ جائر أو مؤامرة على الإسلام الداعي إلى حفظ حياة الإنسان واستقامة مسيرته في الحياة. وكما أنّ الصلاة ركنٌ من أركان الإسلام وصلاة الجمعة والجماعة عِماد العبادة، فإنّ ضرورةَ العصر اليوم هي تعليقُ الجمعة والجماعات والالتزام بالبيوت صلاةً ودعاءً وتفاعلاً إيجابياً في مساعدة المجتمع على تجاوز هذا الامتحان الإنساني العسير.

مواضيع ذات صلة

مشاورات “الأعياد”: لا 65 صوتاً لأيّ مرشّح بعد!

تَجزم مصادر نيابية لموقع “أساس” بأنّ المشاورات الرئاسية في شأن جلسة التاسع من كانون الثاني قد تخفّ وتيرتها خلال فترة الأعياد، لكنّها لن تتوقّف، وقد…

السّيناريو البديل عن الانتخاب: تطيير الجلسة تحضيراً لرئاسة ترامب!

في حين يترقّب الجميع جلسة التاسع من كانون الثاني، يحتلّ عنوانان أساسيّان المشهد السياسي: من هو الرئيس المقبل؟ وهل يحتاج موظّفو الفئة الأولى، كقائد الجيش…

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…

الثنائي وترشيح عون: سوياً ضده… أو معه

كعادته، وعلى طريقته، خلط وليد جنبلاط الأوراق عبر رمي قنبلة ترشيحه قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، ليحرّك مياه الرئاسة الراكدة. قبيل عودته إلى…