زينة برجاوي
تبحث عزيزة العلي عن استراحة محارب خلال عملها المتواصل في قسم الحجر الصحي بمستشفى رفيق الحريري الحكومي، فتمسك هاتفها الخلوي وتبدأ بالاستماع إلى الرسائل الصوتية التي بعثتها لها شقيقتها عبر “واتساب”.
إنّه صوت طفلها أحمد الذي أتمّ عامه الأوّل. كأنّه يعايدها في عيد الأم. كلمات لا تكاد تفهمها. تحاول كبت دموعها بسبب اشتياقها لاحتضان طفلها المبعد عنها. لا تريد نقل الحزن إلى المصابين بفيروس “كورونا”. هؤلاء بحاجة إلى طاقات إيجابية طوال الوقت.
إقرأ أيضاً: بطلة من كوماندوس مستشفى الحريري: رشا لم تحضن ابنتها منذ شهر
في حديثها لـ”أساس”، تخبرنا عزيزة عن تجربتها كممرضة أمّ تحتفل للمرّة الأولى بعيد الأم بعيداً عن عائلتها، هنا في المستشفى. يخفت صوتها قليلاً حين تذكر طفلها أحمد: “الابتعاد عنه خلال الأيام الماضية مهمة صعبة، فكيف الحال في عيد الأم؟”.
داخل قسم الحجر الصحي، تسمع أحدهم يستغيث للمساعدة. ترمي هاتفها وتتوجه مسرعة إليه. في هذه اللحظة، تنسى عزيزة العالم الخارجي، وتجد نفسها أمام مهمة مختلفة، بعدما فرضت عليها الظروف التزام العمل والمساعدة في علاج المرضى. حين تعود إلى الهاتف لنكمل المحادثة، تخبرنا كيف أنّه وحدها رسائل طفلها أحمد تبقى الحافز والدافع لها للصمود والعناية بالمرضى، بعدما اضطرّت للابتعاد عن عائلتها الصغيرة منذ انتشار “كورونا” في لبنان .
تعمل عزيزة كممرضة في مستشفى الحريري منذ العام 2009. هي متزوجة ولديها طفل واحد. منذ إنجابها أحمد، لم تفارقه إلا عندما تتوجّه لعملها. ومع انتشار وباء “كورونا”، رفضت الاستسلام والتزام الحجر المنزلي مع طفلها وزوجها، الذي يعمل أيضا في المستشفى، لكن في قسم المحاسبة.
انطلقت عزيزة من قناعة مفادها: “مكاني في المستشفى مع المرضى للاعتناء بهم، وليس في البيت. لذلك، قرّرت إبقاء طفلي مع والدتي حتّى تنتهي الأزمة وتعود الحياة الى طبيعتها”.
ولعزيزة طريقتها في الوقاية من “كورونا”: لا تبيت في المستشفى بعد الدوام، بل تفضّل العودة إلى منزلها، وتخصّص ثياباً معقمة تستعملها فقط حين الخروج والعودة من وإلى المستشفى. فور وصولها إلى البيت، تخلع حذائها في الخارج وتُبقي ملابسها في حقيبة خاصة على الباب.
وفي كل الحالات، تلتزم بالتوصيات اللازمة للوقاية من المرض، باعتبار أنّها ممرّضة تلازم العمل في قسم حسّاس داخل المستشفى. مع ذلك، تحرص على حماية الآخرين وعدم الاختلاط بأحد، حتّى طفلها، إذ لا تقوم بزيارته عند والدتها، خشية عليه من احتضانها والالتصاق بها.
أمس صباحاً، استيقظت عزيزة واتّصل بوالدتها عبر “الفيديو كول” لتعايدها على طريقتها الخاصة
يصعب على عزيزة الاحتفال للمرّة الأولى بعيد الأم، بعيداً عن والدتها، مثل أمّهات كثيرات في المستشفى. تصف شعورها بـ”الغربة”، كما لو أنّها سافرت إلى بلدٍ آخر، لكن سرعان ما تدرك أنّها في وطنها الأم، فتفتخر بأدائها القَسَم وتنفيذه.
في المستشفى، تحاول عزيزة والعديد من زميلاتها خلق أجواء خاصة تعوّض عن اشتياقهنّ لأمهاتهنّ وأطفالهنّ. تارةً يحاولن كتابة عبارات معايدة للأم ولصقها على جدران الغرف، وطوراً يسجّلن فيديوهات ويرسلنها إليهنّ.
منذ أيام، انتشر فيديو مؤثر على مواقع التواصل الاجتماعي لممرضة في القسم ذاته، وهي لارا حمود التي وجّهت رسالة إلى أبنائها ووالدتها. حينها، حقٌق الفيديو نسبة مشاهدة عالية، باعتبار أنّ لارا، عزيزة وغيرهن… هن جنديات مجهولات في زمن الـ”كورونا”.
أمس صباحاً، استيقظت عزيزة واتّصلت بوالدتها عبر “الفيديو كول” لتعايدها على طريقتها الخاصة. الظروف تسمح لها بزيارة والدتها، لكنّها لن تتمكن من لقاء طفلها. ستكتفي بأجواء الحبّ عن بُعد، وفي قلبها غصّة.
لكن ما لا تعرفه عزيزة، ربما، أنّها أمٌ لكل المرضى في المستشفى.