أمّي الراحلة في عيدها: وجدتُها في عين الرمّانة

مدة القراءة 2 د


زينة حريري

الأعياد مملّة بالنسبة إليّ. مع ذلك، فإنني أحببتها في صغري، إذ كانت ملاذي الوحيد للتحرّك والتنفّس بحرّية. أحببتها كلها، من العيد الكبير إلى العيد الصغير وليلة الميلاد.

لكن عيد الأم هو العيد الوحيد الذي أخافه ولا أحبه، لا حقداً ولا كرهاً، وإنما بسبب فقداني لزهرتي، أمي التي فقدتها منذ كنت طفلة، بعد صراعها مع مرض فتك بجسمها.

إقرأ أيضاً: لينا بوبس.. “أم الثورة”

لذلك، فإن كل ما كنت أسمعه من صديقاتي وأصدقائي عن هذا العيد لم أكن أفهمه. كانوا يتحدثون عن مشاعر جامحة وذكريات آسرة. أفتعل التفاعل معهم، لكن في داخلي بحرٌ من الجفاف: لا أشعر بشيء عما يصفون ويتذكرون.

كنت في الحادية عشرة عندما قررتُ المشاركة في هذا العيد، بعدما أحسست بالغيرة من أصدقائي في المدرسة، حين سمعتهم يتكلمون عن خططهم لهذا اليوم “الساحر”.

لم أنفق “الخرجيّة” لأسبوع، بل جمعت كل ما ادخرته وذهبت الى متجرٍ للهدايا بجانب مدرستي. اشتريت بروازاً صغيراً وخبّأته، منتظرة حلول عيد الأم لأهديه إلى أم ليست أمي.

استيقظت صباحاً، أخرجت البرواز وبدأت رحلة بحثي عن أمٍ لأعطيها هديتي العظيمة.

تمنّيت أن أكون مثل أصدقائي: لديّ أم لديها عيد، وابنة، وهدية.

كنت في عين الرمانة مع الأمهات اللواتي التقين بأمّهات من الشياح. حدث ذلك في العيد الأجمل إلى قلبي: ثورة 17 تشرين

غير أنّني عدت خائبة، وحزينة. لم يصمد حلمي طويلاً. بدا بعيداً عن التحقّق: كل الأمهات اللواتي ربّتنَ على كتفي يوماً، كنّ غارقات في صخب العيد مع عائلاتهن. اكتشفتُ أنني لست في حساباتهن.

تمدّدت في غرفتي وحبست دموعي. تخيّلتُ أمي وتذكرتها. تحدثت معها وعايدتها، ثم وضعت الهدية تحت وسادتي. أغمضتُ عينيّ، علّ رغبتي في المشاركة بهذا اليوم تخمد أو تقودني إلى حلمٍ جميل.

بعد سنواتٍ، رأيت الحلم يغدو حقيقة، أو ربما جانباً من هذا الحلم. كنت في عين الرمانة مع الأمهات اللواتي التقين بأمّهات من الشياح. حدث ذلك في العيد الأجمل إلى قلبي: ثورة 17 تشرين.

كنت أمشي بينهن وأهتف معهن: “ما بدنا طائفية… بدنا وحدة وطنية”. كنت، أنا، أمي. أنا امتداد لها ولثورتها. أمشي وأحدّق في وجوههن. أمي ستكون أولهنّ. هكذا فكرت.

رأيتها في وجه امرأة تبكي فرحاً من مشهد اللقاء، وشاهدتها في صرخة امرأة حُرّة ترفع قبضتها متمردة، وجدّة تزغرد. هناك، في ذلك اليوم، اكتشفت أنّ كلّ أمهات الثورة هنّ أمي.

مواضيع ذات صلة

17 تشرين: خروج الشباب على الولاء للزعماء

تحلّ الذكرى السنويّة الثالثة لانتفاضة 17 تشرين، ولبنان غارق في أزمات وجودية متناسلة وغير مسبوقة في تاريخه الحديث. في هذه المناسبة أعدّ “أساس” ملفّاً متنوّعاً…

سوريّة – كرديّة: 17 تشرين جعلتني “لبنانية”

تحلّ الذكرى السنويّة الثالثة لانتفاضة 17 تشرين، ولبنان غارق في أزمات وجودية متناسلة وغير مسبوقة في تاريخه الحديث. في هذه المناسبة أعدّ “أساس” ملفّاً متنوّعاً…

بوجه من انتفضوا: المناهبة”(*) الخماسيّة؟ (2)

تحلّ الذكرى السنوية الثالثة لانتفاضة 17 تشرين، ولبنان غارق في أزمات وجوديّة متناسلة وغير مسبوقة في تاريخه الحديث. في الحلقة السادسة ينشر “أساس” مقتطفات من فصل…

في انتظار تجدّد “يوفوريا” 17 تشرين

تحلّ الذكرى السنويّة الثالثة لانتفاضة 17 تشرين، ولبنان غارق في أزمات وجودية متناسلة وغير مسبوقة في تاريخه الحديث. في هذه المناسبة أعدّ “أساس” ملفّاً متنوّعاً…