بفائض من العطاء، الحبّ والإنسانية، والقليل القليل من الخوف، يمارس الأطباء المتطوّعون مهامهم في وحدة مكافحة كورونا في مستشفى رفيق الحريري الحكومي. تواجههم التحديات فيغلبونها بالأمل، تقهرهم قلّة الإمكانيات فيكسرونها بالابتسام والإصرار… ليزرعوا في قلوب المهاجرين إلى العزل الاحترازي حكاية تحدٍّ لا تقف إلا عند عتبات التخلّص من الفيروس.
هم شبانٌ وشابات تتجاوز مسؤولياتهم أعمارهم بأشواط، اتّخذوا من الطب أسمى صوره، غلّبوا إنسانيتهم على هواجسهم، وأطفأوا قلق أحبائهم بنجومية عطاءاتهم وقرروا مواجهة العدو الشرس. كانوا مع بداية انتشار كورونا في لبنان 14 طبيباً واليوم أصبحوا 17 بطلاً في سباقٍ مع انتشار الوباء… فكيف يمضي هؤلاء يومياتهم في طوابق العزل وبين المرضى والمشتبه بإصابتهم في مستشفى بيروت الحكومي؟
إقرأ أيضاً: علي رباح بعد 14 يوماً في الحجر: هكذا حميتُ عائلتي
الطبيبة أماني الخطيب، إحدى بطلات وحدة كورونا، كانت تمضي فترة تدريبها في مستشفى الحريري عندما دخلت أوّل حالة إلى االمستشفى، ومن هنا اتّخذت القرار كزملائها وزميلاتها للتطوّع في وحدة مواجهة كورونا.
تروي أماني لموقع “أساس” يومياتها في الوحدة، حيث مهمات الفريق تكون في طوابق العزل والاهتمام بالمرضى. يحاولون طمأنتهم ويمنحونهم الدعم النفسي اللازم. بعضهم يبقى لمدّة 14 يوماً من دون أن يرى أهله: “فنحاول أن نكون نحن أهلهم وعائلتهم في هذه الفترة”.
وعند فحص المرضى، الذين معظمهم لا يعرف طريقة الفحص المخصّصة لكشف فيروس كورونا، ويظنّون أنّه عبارة عن “فحص دم”، يحاول المتطوّعون شرح كل التفاصيل اللازمة للمرضى ويمهّدون لهم نفسياً باحتمالية انزعاجهم من الفحص الذي يكون عبر الأنف، ويعمّمون عليهم الإرشادات اللازمة في حال أرادوا العطس او السعال بعد الفحص.
تتحدث الطبيبة العشرينية عن العلاقة التي خلقتها الأجواء الضاغطة بين المتطوّعين في وحدة كورونا. فهم، وإن كانوا يعرفون بعضهم البعض من قبل كونهم طلاباً في الجامعة نفسها، إلا أنّهم اليوم يعيشون تجربة مشتركة، بقلقها ومسؤولياتها، وأصبحوا عائلة واحدة: “مناخد روح ببعض ومنشكي همومنا لبعض، وإذا حدا خاف أو ضعف الكل بيوقف حدّو وبساندو”.
هذه العلاقة لا تقتصر على الأطباء وحسب، بل بينهم وبين الممرّضين والممرّضات أيضاً، والتي لا تخلو من أجواء المرح والتنكيت من حينٍ لآخر، لتخفيف الضغط النفسي وبث الطاقة الإيجابية بين صفوف الفريق.
كان قالب الحلوى والفريق الطبي في انتظارها للاحتفال على طريقتهم وبكامل لباسهم الاحترازي بعيد ميلادها
ومن بين التجارب التي لن تنساها أماني في وحدة كورونا، على حدّ تعبيرها، عيد ميلادها الذي صادف قبل أيام. فهي طلبت من عائلتها وأصدقائها عدم الاحتفال به، للمرّة الأولى في حياتها، نظراً للظرف الصحي ولمنع التجمعات والاختلاطات حفاظاً على سلامتهم. لكنّ المفاجأة كانت من تدبير أحد الممرّضين (زميلها محمد) بالتعاون مع باقي المتطوّعين والممرّضين، حين قال لها بعد انتهاء دوامها الليلي في تمام الساعة الثالثة صباحاً: “ثمة شيء لك في المطبخ خذيه قبل المغادرة”. فكان قالب الحلوى والفريق الطبي في انتظارها للاحتفال على طريقتهم وبكامل لباسهم الاحترازي بعيد ميلادها: “كان طعم عيدي هذه السنة مميزاً مع عائلتي الجديدة وبعد يومٍ متعب… لم أكن أتوقّع هذه المفاجأة”.
وعن قلق العائلة، تلفت أماني إلى أنّ الأهل وجدوا الفكرة مربكة في البداية، لكنّ قرارها كان شخصياً، واليوم الأصداء جداً إيجابية من الأهل والأصدقاء: “وحتّى من أناس لا نعرفهم يرسلون لنا الرسائل عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ويقولون لنا نحن معكم والله يقويكم، ما يمدّنا بالقوة ويحمّلنا المزيد من المسؤوليات تجاه مكافحة هذا الوباء”.
تحاول أماني هي وزملائها استثمار متابعة الناس لهم على مواقع التواصل، وتسليط الإعلام الضوء عليهم لتوعية الناس أكثر وأكثر على ضرورة الحجر المنزلي وأهمية الوقاية، وتتوجّه إلى اللبنانيين جميعاً وتطالبهم بالتزام منازلهم: “فلا نريد أن نصل للنموذج الإيطالي، لا أريد أن يأتي يوم وأجد نفسي أمام ثلاثة مرضى بحاجة لتنفس اصطناعي وأكون مضطرّة لاختيار أحدهم، ولا أريد أن أرى ألف مريض في الخارج وليس لهم أسرّة في المستشفى”.
تتمنّى مرور هذه الأزمة بأقلّ الأضرار الممكنة كي نعود إلى حياتنا الطبيعية ونعانق أهلنا وكلّ من نحبّ، لكن اليوم فلنعانق المسؤولية وحدها لأنّ “أي خطأ وأيّ لا مبالاة من أيّ شخص قد تضعنا في موضع حرج، وقد نكون أمام أزمة أجهزة ومعدّات لن تكون كافية لعلاج المرضى وتخفيف أوجاعهم”.