محمد شلهوب
لم يكن مفاجئاً رضوخ وخنوع شعب بأكمله أمام قرار “عصابة” الأفران قبل أيام. ولم نُصدم عندما لم نلحظ قبضة تُرفع أو صوتاً يعلو في ضاحية بيروت الجنوبية، حيث مسكننا منذ الصغر، إذ كالعادة، تنتظر غالبية أهل نظرية “المؤامرة” مستمرة والثورة “ملعونة” إشارة “القائد” حتى تغزو الميادين.
لكن، ماذا عن تلك الفئة التي لا تؤمن بالتّبعيّة لأيٍّ كان؟ هذه الفئة التي ترفض من تلقاء نفسها قرارات مماثلة، من دون تلقي أوامر وتوجيهات من جهة ما؟ ألا يحقّ لها التصدّي والتعبير عن غضبها داخل منطقتها؟
إقرأ أيضاً: حياة الناظر.. “غرافيتي” الثورة
كنّا نفترض ذلك، فما كان منّا، رفاقي وأنا، إلا اتخاذ القرار بالتظاهر ليلاً تحت جسر المشرفية في الضاحية، من أجل “رغيف الخبز”، فقط لا غير.
بدأنا التجمّع بعددٍ لا يتجاوز العشرة أشخاص، وانضمّ إلينا لاحقاً عدد لا بأس به من أبناء هذه المنطقة الفقيرة والمهمّشة. وعند ازدياد العدد قليلاً، تقدّم نحونا شخص عرّف عن نفسه باسم “الحاج فلان”، وهو مسؤول في “حزب الله”. بدأ حواره معنا بعبارة: “ما تتجمّعوا هون وما تسكّروا الطريق، كرمال ما نحتكّ فيكن، وحتى ما نكسرلكن إجريكن”.
كان الردّ من قبلنا أنّنا أبناء هذه المنطقة ممّن امتعضوا من قرار الإضراب، وتظاهرتنا قائمة من أجل الضغط للتراجع عن القرار، وأنّ قانون الدولة اللبنانية يحفظ لنا الحقّ بالتظاهر والتعبير عن الرأي في أي منطقة تنطبق عليها تلك القوانين والأحكام.
غير أنّنا، برأي “الحاج”، تجاوزنا الحدود الجغرافية لبلدنا من دون علم: “هيدي القوانين ما بتمشي هون، روحوا تظاهروا بالغربية”. في تلك الأثناء، كانت أعداد المتظاهرين تزداد. بعض المارة وقفوا على أرصفة بعيدة قليلاً ما.
حدّقتُ في وجوههم. لم أجد سوى حزن دفين وقهر عظيم وخوف كبير. أنا على يقين أنّهم يريدون مشاركتنا احتجاجنا، لكن هناك من سيطر على عقولهم وأدخل إليها أفكاراً مشوّهة، وحبك فيها آلاف الأفلام الخيالية.
كانت عبارة صديقي كما لو أنّها رصاصة أصابت “الحاج”. رصاصة منعته من إخراج “فيلم” معقّد الأحداث على وجه السرعة، يقنع به عنصره بالمؤامرة
السيارات العابرة كان واضحاً الفرح في وجوه ركابها، فهم لم يألفوا مشهداً احتجاجياً مماثلاً في الضاحية. أحدهم سائق عمومي، ترجّل من “الفان” في وسط الطريق، وتوجّه لنا بالقول: “ما تخلّوا حدن يزعبكن من هون، نحنا جعنا وعم نموت، بدنا ناكل.. رح وصّل الركاب وراجع أوقف معكم”.
بعد دقائق، عاد “الحاج”. تفاجأ بوجود أحد عناصر حزبه متظاهراً معنا، فتقدّم نحوه وسأله :
– شو عم تعمل هون؟ ليش واقف معن؟! يللا طلاع عالبيت!
– أنا وقفت ساعتين بالفرن وما طلعلي خبز، عطيني خبز بطلع.
– أنا عندي خبز ببيتي.
هنا، تدخل أحد الأصدقاء قائلاً:
– حاج، ليش عم تعيّط عليه وتزعبو؟ بدو خبز، جبلو خبز ليطلع… مش شايفو مدمّع ورح يبكي؟
– شو بعمل يعني ؟ بمسحلو دموعو؟!
– الله يرحم السيد عباس (الموسوي) لما قال سنخدمكم بأشفار عيوننا.
كانت عبارة صديقي كما لو أنّها رصاصة أصابت “الحاج”. رصاصة منعته من إخراج “فيلم” معقّد الأحداث على وجه السرعة، يقنع به عنصره بالمؤامرة. عاد أدراجه مجدداً إلى الرصيف المقابل لنا، ليتمكن من مراقبتنا برفقة عناصره.
وعندما أصبح على يقين من عزمنا على البقاء، وثباتنا على موقفنا، تمّ استدعاء القوى العسكرية والأمنية من مخابرات وجيش وأمن داخلي لفضّ التظاهرة بالقوّة.
بعد انقضاء أسبوع على الحادثة، ارتفع سعر صرف الدولار إلى ما يقارب 2700 ليرة، وتضاعف سعر غالبية المنتوجات الغذائية. وقبل أيام، سمعنا رئيس الحكومة ينعى الدولة عبر خطاب بشّر بعدم قدرة الدولة على حماية مواطنيها واقتصادها، فبدأت الدعوات في كافة المناطق اللبنانية للتظاهر وقطع الطرقات، فاستجبنا ثانيةً في الضاحية، وعند جسر المشرفية تحديداً، غير أنّ هذه المرّة كانت مختلفة تماماّ.
كان “الحاج” في انتظارنا مع أعدادٍ كبيرة من المحازبين، مُنعنا حتّى من التجمّع، وحصلت بعض الإشكالات معنا، إذ شتم الحزبيون بعض المتظاهِرات واقتيدن بعضهنّ إلى مدخل مبنى مجاور للتحقيق.
هكذا، أصبح من المحرّم علينا التظاهر في منطقتنا للمطالبة بأبسط حقوقنا، وإلاّ سنواجه بالقوة. “الحاج”، حتماً، لا يعرف قول الكاتب أنطون تشيخوف: “الرضوخ للظلم سبب أساسي في انتشاره”.
ونحن، الثائرون على الظلم، لن نقبل أن ندفع الثمن وحدنا، لن نموت بصمت، لن يسقطنا أو يخيفنا أحد، وإن سقطنا سنسقطكم معنا…