حول العالم، مئات ملايين البشر باتوا في سجون طوعية. العزل المنزلي الطوعي انتشر في معظم الدول التي ضربها فيروس كورونا. لبنان ليس استثناءً. ورغم أنّ الصين والولايات المتحدة الأميركية أعلنتا حالة الطوارىء، إلا أنّ بلداناً كلبنان ما زالت حكومته تكابر، وتخضع الأمر لنقاش ونقاش، قبل أن تستقرّ على طوارىء صحيّة غير شاملة.
من لبنان إلى الصين وأوروبا وأفريقيا، هذا الوباء العالمي كشف هشاشة الجسد البشري، وأعاد التذكير بضعف الإنسان. وأعاد أوّلا تذكيرنا بأنّنا “واحد”. أنّنا مصنوعون من الهشاشة نفسها، ومن الضعف نفسه، وأنّ ما يؤذي صينياً، نفسه يؤذي لبنانياً وأميركياً وفرنسيّاً وليبيّاً وأفريقيًّا جنوبيًّا…
إقرأ أيضاً: مؤسفة روائح الكلمات في هذا المقال
فيروس الكورونا كشف ضعفنا كذلك في مواجهة أسئلة أخلاقية أساسية. منها أنّ “تطمينات” كثيرة، من منظمات عالمية، أكّدت أنّ “الأكبر سنّاً هم الذين سيموتون” به، أي من هم فوق الستّين وفوق السبعين وفوق الثمانين. ولئن كان هذا صحيحاً إحصائياً، إلا أنّ إعلانه، بهذا الوضوح، طمأن كثيرين، لكنّه كان بمثابة “حكم إعدام” لكثيرين من آباء وأجداد وكبار في السنّ، أرعبتهم هذه الإحصاءات وأحبطتهم. في حين أنّ الأمل كبير بالنجاة من الفيروس القاتل، حتّى لمن هم في عمر متقدّم. كما أنّ أخباراً كثيرة كانت معاكسة لهذا التعميم، منها عن مسنّين شُفُوا من كورونا، أحدهم فوق المئة، بحسب وكالة الأنباء الصينية “شينخوا” في 8 آذار/مارس الجاري، رغم أنّه كان يعاني من مشاكل صحية موازية، منها مرض الزهايمر وارتفاع ضغط الدم وفشل القلب.
أبعد من هذا، فإنّ المتجوّل على مواقع التواصل الاجتماعي، بين “فايسبوك” و”تيكتوك” و”تويتر” و”إنستاغرام” وغيرها، وهي المواقع التي “يقيم فيها” جزءٌ كبيرٌ من سكّان كوكب الأرض هذه الأيام، المتجوّل هناك سيكتشف أنّ “أحلام” البشر انخفض سقفها كثيراً في الأسابيع الأخيرة. انخفض، وربما “ارتفع”.
فالطالب اللبناني المحتجز في ووهان منذ 60 يوماً، أدهم السيد، والذي يتابعه مئات آلاف اللبنانيين، بات حلمه أن يرى والدته ليس أكثر. طالب كان حلمه التخرّج والعمل والنجاح، انخفض سقف طموحه، إلى أنّه يريد رؤية والدته، التي اختار الابتعاد عنها، وطلب العلم، ولو في الصين. أو قل “ارتفع” طموحه. فالكورونا أعاد ترتيب أولوياتنا، وذكّرنا بما هو “أهمّ”.
الأطفال المحتجزون في البيوت، لا شكّ أنّهم اكتشفوا “نعمة” المدرسة، وضرورتها في حياتهم. هم الذين كانوا يستيقظون إليها متثاقلين، ويعودون منها فرحين بـ”الانتهاء” من دوامها، ومن فروضها، ها هم يحلمون بالركض في ملاعبها ورؤية أصدقائهم، بعد أسابيع من “السجن” المنزلي مع الأهل.
والأزواج المبعدون عن بعضهم البعض، بسبب عزل أو سفر، تراهم يحلمون بأن يغمروا بعضهم البعض. ليس أكثر. وهو أمر لم يكن يخطر على بال زوج في يوم من الأيام، أو زوجة. أما الأزواج “المحبوسون” سوياً في منزل واحد، في عزل زوجيّ واحد، فهم يكتشفون أنّهم بدأوا يتعرّفون إلى بعضهم البعض. يتحدّثون عن “كواليتي تايم Quality Time”.
أحلامنا باتت صغيرة جداً، إلى درجة أنّها باتت “جميلة”. أن نخرج إلى مطعم كنّا نحبّه. أن نغنّي مع أصدقاء في سهرة مشتركة. أن نضحك مع أقارب نحبّهم. أن نجتمع، كعائلات كبيرة، في منزل واحد. أن نزور مقهىً اعتدنا زيارته حتى نسينا فرادة طعم قهوته.
أحلام البشر، الذين كانوا يريدون غزو الفضاء، واستعمار الكواكب المجاورة، والبحث عن كواكب صالحة للحياة، والذين أعدّوا العدّة، منذ أكثر من نصف قرن، لمواجهة غزوات محتملة من كواكب “غازية” مفترضة، هؤلاء البشر أنفسهم، باتت تقتصر طموحاتهم على “البقاء”، والبقاء فقط، وهذه المرّة “في منازلهم”. أقصى طموحهم اليوم هو “الصمود” في مواجهة عدوّ خرج عليهم من “الأرض” نفسها، من حيث لا يحتسبون، ولم ينتظروه، وراح يهدّد العرق البشري بأكمله، بالفناء ربّما.
الكورونا، هذا الوباء أعاد وضعنا وجهاً لوجه مع كلّ أسئلتنا عن الوجود والحياة والعمل والتطوّر والتكنولوجيا
أحلامنا بالترف الأقصى، انتقلت من سرعة السفر، بين البلدان، والرفاهية المطلقة في الفنادق والمطاعم، وفي التكنولوجيا المساعدة، إلى انحسار شديد، حيث نريد الخضار وما أمكن من لحوم أو أجبان وألبان وخبز وملح، مع عامل توصيلاتٍ آمن، يوصلها إلى البيت، من دون فيروسات عليها، من يديه أو من أيدي الذين سحبوها من الرفوف ووضعوها في الأكياس. لكنّها ذكّرتنا بالنعم التي ما كنّا لها بمدركين، ولا عليها بشاكرين.
نحنُّ إلى حياتنا التي كانت قبل أسبوع أو اثنين. الحياة نفسها التي كنّا مللنا منها، أو نعتبرها قاسية، أو نحلم بالخروج منها. نحنُّ إلى وظائفنا الروتينية التي كنّا نريد عطلة طويلة منها، والجلوس في المنزل، “بلا ولا شي”، للهروب منها. نحنُّ إلى الملل نفسه، الملل والتعب في الركض طوال النهار، وذلك بعدما بدأنا نتعرّف إلى الملل الحقيقي، بين جدرانٍ أربعة، وحيدين، إلا من انتظار فيروس، يأتينا على يدي عامل التوصيلات، أو في زرّ مصعد المبنى حيث نسكن، إذا قرّرنا النزول صوب دكّانٍ أو صيدلية…
الكورونا، هذا الوباء أعاد وضعنا وجهاً لوجه مع كلّ أسئلتنا عن الوجود والحياة والعمل والتطوّر والتكنولوجيا. وتحديداً التكنولوجيا، التي باتت قادرة على نقلنا إلى المرّيخ، وعاجزة عن حمايتنا من فيروس متناهي الصغر، يفتك حالياً بمئات الآلاف منّا ويهدّد مئات الملايين، وربّما يكون بداية عهد انقراض البشر، هو أو نسخة منقّحة منه في السنوات المقبلة.