ورد في المقال السابق أن القطاع المصرفي يواجه فجوة رأسمالية لا تقل عن 30 مليار دولار، ستتطلب استخدام ما بين 25 و30 مليار دولار من أموال المودعين لسدها، وأن هذا الرقم يتراوح بين 16% و20% من الودائع، وفق أخر البيانات، وقد ترتفع النسبة مع مرور الوقت وانخفاض الودائع.
ثمة افتراض غير دقيق بأنه يمكن الاكتفاء بخصم نسبة ضئيلة من الحسابات التي تفوق مليون دولار أو 500 ألف دولار، أو من 10 في المئة من الحسابات الأكثر امتلاء، كما ألمح رئيس مجلس الوزراء حسان دياب.
هناك عقبات كبيرة تحول دون هذا الافتراض:
هذا الطرح يغفل التمييز بين ودائع الشركات وودائع الأفراد. فالشركات تعدّ ودائعها من الأصول المتداولة، التي تقابلها مطلوبات متداولة، قد تكون قروضاً مصرفية أو ديوناً تجارية. وقد يؤدي تطبيق الاقتطاع إلى تآكل رؤوس الأموال العاملة (working capital) وباالتالي إلى إفلاسات وأزمات سيولة في قطاعات الأعمال.
لو شاءت الحكومة مثلاً خصم مبلغ الثلاثين مليار دولار بأكمله من النصف الأعلى من الودائع، فإن نسبة الخصم ستتراوح بين 30% و40%. وهنا ستبرز تعقيدات عملية. فلو افترضنا أن الحدّ لتطبيق الهيركت هو مليون دولار، سيتبقى لمن لديه مليون دولار 600 ألف دولار، بينما من لديه 900 ألف دولار لن يتضرر. الحل لهذه المعضلة، تطبيق الخصم على ما فوق الحدّ الفاصل، ما سيؤدي عملياً إلى رفع نسبة الاقتطاع كثيراً.
إقرأ أيضاً: حسابات “الهيركت”: أكبر مما تظنون (1/2)
هناك مشكلة أخرى هي أن كثيراً من أصحاب الودائع الكبرى يحملون قروضاً، وسيلجأون بالتأكيد إلى عملية تصفية متقابلة (netting)، إذ ليس من المعقول أن تخصم له من وديعته وتبقي قرضه كما هو. وفي هذه الحال سيتقلص الوعاء الذي سيشمله الخصم بشكل كبير. وتكفي الإشارة إلى أن الأشهر القليلة الماضية شهدت انخفاضا في محفظة القروض لدى البنوك بنحو عشرة مليارات دولار، نتيجة عمليات التصفية المتقابلة بين الودائع والقروض، وهذا مؤشر لما يمكن أن يحصل كلما اقترب “الهيركت”.
مثل هذه التصفيات السالفة الذكر يمكن أن تمتد لتشمل ذمماً مدينة ودائنة أخرى بين العملاء خارج البنوك، من خلال عمليات بيع العقارات وسواها بشيكات مصرفية، وهي ممارسة باتت شائعة، ويمكن تلمسها من خلال القفزة في حجم المبيعات العقارية.
كم هي النسبة التي سيحصل عليها المودعون من رؤوس أموال البنوك مقابل الأموال التي ستؤخذ منهم؟
من المشكلات العملية أيضاً تعدد الحسابات لشخص واحد، في حين أن السرية المصرفية ما زالت مطبّقة. من الحلول الممكنة لذلك الاستعاضة عن “الهيركت” بضريبة ثروة تدفع لمرة واحدة على الأصول النقدية التي تفوق حدًّا معيناً. وهذه أيضا لها صعوباتها، وليس أقلها التضحية بالسرية المصرفية.
ما سبق يشير إلى أن فكرة الاكتفاء بالخصم من النصف الأعلى من الودائع يستند إلى افتراضات خاطئة. فهل من بديل؟
وزير الاقتصاد راؤول نعمة ألمح إلى أن المطروح ليس “هيركت” بل “إنقاذ داخلي” (bail-in) للبنوك من أموال المودعين، على النحو الذي جرى في قبرص إبان أزمة الديون اليونانية.
قد يكون ذلك مدخلاُ لإقناع الناس بأن ما سيجري ليس إعداماً لأموالهم بل استبدالها بأسهم في البنوك. في هذا تصوير للأمر على نحوٍ مجتزأ. ففي حساب القيمة العادلة سيؤخذ من أموال الناس 25 إلى 30 مليار دولار وسيُعطَون في المقابل أسهماً لا تتجاوز قيمتها ستة إلى ثمانية مليارات دولار، أي إنهم قد لا يحصلون على أكثر من دولار واحد من كل أربعة دولارات ستؤخذ منهم، وسيحصلون عليها على شكل أسهم صعبة التسييل، وعرضة لانخفاض القيمة. وقد يكون الواقع أكثر سوءاً. ففي قبرص مثلاً، حصل أصحاب الودائع التي تفوق 100 ألف يورو في بنك “لايكي” على أسهم في “بنك قبرص” لا تساوي أكثر من 18% من قيمة ودائعهم.
وثمة مسألة حساسة هنا لا بد من التفكير بها: كم هي النسبة التي سيحصل عليها المودعون من رؤوس أموال البنوك مقابل الأموال التي ستؤخذ منهم؟ ماذا سيبقى لأصحاب البنوك من بنوكهم بعد إعادة الهيكلة؟ هل يحق لهم الاحتفاظ بالسيطرة على الملكية والإدارات بعد أن تؤخذ من أموال المودعين 30 مليار دولار لترميم رؤوس الأموال؟
ما سلف يقود إلى توقع أكثر واقعية بأن يشمل “الهيركت” أو الـ bail-in شرائح أوسع من المودعين. سيتوقف الأمر عند المعادلة التي تختارها الحكومة، لكن القاعدة الطبيعية أنه كلما زادت نسبة الإعفاء من تحت ارتفعت نسبة الخصم من فوق. وهذا قد يكون عنصراً مسبباً لصراع سوسيو-اجتماعي، ربما تندرج في إطاره مسائل إعادة توزيع الثروة والاستحواذ على القطاع المصرفي.