تقول أمين الجميّل في انتفاضة 14 آذار، فتقول ابنه بيار. مثل غسان تويني، دفع الرجل ثمناً غالياً جداً بانتقام الشرّ من رموز الحركة الاستقلالية 2005.
بيار أعاد والده إلى الوطن بعد غياب سنواتٍ طويلة. وجبران أعاد “وهج الموقف” إلى “النهار”، بعد احترافٍ رعاه والده لسنواتٍ أطول.
بعد بيار يقول عارفون بالرئيس الجميّل إنّه ما عاد الرجل الذي كانه. تماسك على حزنه إلى أقصى درجة لأنّه صلبٌ، لكنّ قتل بيار قصم ظهره، ولا يزال.
بيار الجميّل، الشاب الذي أحبّه جميع من تحدثوا إليه لأنّه لم يكن يترك لهم خياراً آخر، هو الذي شقّ طريق الكتائب إلى “لقاء قرنة شهوان” وبعدها إلى انتفاضة 14 آذار والساحات، قبل أن يصعد إلى استشهاده.
إقرأ أيضاً: 14 آذار “كما يرويها فارس سْعَيد” (2/2): هكذا خطف حزب الله الحلم
في البدء كان ثمة قرار بألّا يضمّ “اللقاء” أحزاباً، ما دامت يد السلطة موضوعة على حزب الكتائب، والعونيون في الخارج وحزب “القوّات” محلولاً. صحيح أنّ الدكتور توفيق هندي كان حاضراً وبتنسيق مع القواتيين، لكن بصفته الشخصية، ولم تكن لذلك التنظيم قيادة.
بيار الجميّل لم يقبل أن يكون لقاءٌ في البلدة المتنية على طريق بكفيا، يرعاه البطريرك الماروني، ولا يكون الكتائبيون فيه. مشاركته فتحت الباب أمام الآخرين. وبيار عرّف رفاقه في اللقاء على والده الرئيس أمين الجميّل. معظمهم ما كانوا يعرفونه جيداً. وانخرط النائب الشاب، ابن السادسة والعشرين، باندفاعة وحيوية داخل النضال وفي المعارك السياسية.
بيار هو الذي أعاد والده إلى لبنان، عندما انتُخِبَ نائباً عن المتن عام 2000. عندما اتفق سمير جعجع وميشال عون بعد دقائق من تعيينه في القصر الجمهوري رئيساً لحكومة العسكريين ليل 22 – 23 أيلول 1988، على ضرب أمين الجميّل، وسيتفقان عليه في 2016، وعلى كل من يقول “أنا لبناني مسيحي مستقلّ”، في ما عُرف بتحالف “أوعى خيّك”. ألبساه لبوساً دينياً على خلفية تقاسم حصّة المسيحيين في الدولة وفق اتفاق سرّي موقّع بين سمير جعجع وبين جبران باسيل.
الابن بيار أعاد والده أمين إلى لبنان بعد إقامة قسرية في الخارج دامت 10 سنوات. لم يغادر الرجل لبنان بسبب الجيش السوري، بل بسبب تهديد واضح وجديّ تلقّاه بعيد خروجه من القصر الجمهوري من خلال رفيقه في الصفّ المدرسي مُذ كانا ولدين: كريم بقرادوني. وكان كريم لا يزال نائباً لقائد “القوات اللبنانية” آنذاك، وجعجع لا يُرسل الكلام على عواهنه.
لكنّ حقد نظام الوصاية على الجميّل كان من الأعمق والأشدّ. رفع في وجهه فضيحة “صفقة البوما” ثم سحبها معلناً براءته
تصرّف الرئيس الجميّل في آخر دقائق عهده على غرار الرئيس بشارة الخوري الذي كلّف قائد الجيش فؤاد شهاب رئاسة حكومة انتقالية واستقال، إلا أنّ ميشال عون تصرّف في كل ما فعل كقائد انقلاب عسكري وليس كرئيس حكومة انتقالية مهمتها تأمين انتخاب رئيس في أسرع وقت.
لكنّ حقد نظام الوصاية على الجميّل كان من الأعمق والأشدّ. رفع في وجهه فضيحة “صفقة البوما” ثم سحبها معلناً براءته.
وضع أمين الجميّل كتاباً بالفرنسية سمّاه “الإساءة والصفح”، يبدو أنّه طبقه حتّى في السياسة. وهذه يمكن أن تُعدّ نقطة ضعف وحيرة لمن يحاول فهم مساراته. يشدّ أحياناً عندما يجب أن يرخي ويرخي عندما يجب أن يشدّ. وعلى الدوام يُرسل إشارات مصالحة إلى من يخاصمونه فيثير هواجس من يحالفونه وكثيراً ما يخسرهم.
كان يصلّي وصار يصلّي كثيراً بعد بيار. وتطبيق الروحانيات في السياسة يحمل خطورة بالغة في حقول السياسة بين ذئاب، خصوصاً في البيئة المارونية.
في ساحات نضال 14 آذار تقول أمين تقول بيار. بعض الآباء لا يترك هواء للأبناء كي يتنفّسوا. أمين الجميّل يصغر كي يكبر ابنه. بيار في “14 آذار” وبيار قبلها في “قرنة شهوان” هو الذي خاض “على الأرض” معركة الانتخاب الفرعي، في المتن بعد رحيل ألبر مخيبر، وفي حقبة تجميع القوى من أجل “انتفاضة الاستقلال” وفوزها. جال في البلدات والقرى على امتداد لبنان والتقى الناس وزارهم في بيوتهم وقَلَب الدنيا بجمعهم في سرعة مذهلة، لأنّه كان محبوباً قريباً إلى القلب. ولم يكن يتطلّع أو يهتم لما يفعل الآخرون، القوات أو العونيون. يقوم بفروضه السياسية على أكمل وجه وبابتسامة. وهكذا نسج صداقات في طول 14 آذار وعرضها، من سعد الحريري إلى آخر مسؤول في الحزب التقدمي الاشتراكي، مروراً بسياسيين كان يعتقد أنّهم لن يتقبّلوه لأنّه ابن عائلة الجميّل، وهم يساريون أقاموا مراجعاتهم الذاتية. وكانوا مع ياسر عرفات زمن “الحركة الوطنية”، مثل الياس عطالله وسمير فرنجية وسواهم ممن عشقوا فيه طهره واندفاعته ونجاحه وطيب معدنه.
مع بيار كان حزب “الكتائب” 14 آذارياً صافياً. وكان يروق أمين الجميّل التذكير بزهو أنّه الحزب الذي رفع شعار “لبنان أولاً” منذ تأسيسه عام 1936. الأرجح كان يذكّر حلفاءه الذين أُخذوا بجعجع بعد خروجه من السجن أن حزب الكتائب هو التاريخي والباقي أبناء البارحة.
قصفته المرارة والأحزان بعد اغتيال بيار، فلم يعرف أن يخوض معركة الانتخاب الفرعي لملء مقعده في المتن حتّى انتهاء ولاية المجلس. وسّط البطريرك الماروني الراحل صفير والتقى النائب العوني ابرهيم كنعان توصلاً إلى تزكية، علّه يتجنّب ويجنّب المنطقة معركة انتخابية، بدل أن يبادر إلى إعلانها معركة قوية وحاسمة في وجه عون. فهجم عليه قائد الجيش السابق كالوحش الكاسر مفتعلاً معركة، وأخذ المبادرة وأنزل بأمين الجميّل هزيمة مفاجئة، بمرشّح مجهول ومئات قليلة من الأصوات.
بعد ذلك، انكفأ الرجل المحزون، تراجع حضوره وتقدّم ابنه سامي إلى قيادة الحزب. والتزم أمين ما قرّرته قيادة “14 آذار” في حقبتي خلافة إميل لحود وميشال سليمان للرئاسة، فاقترع نواب الكتائب للمرشّح سمير جعجع قبل أن تتلاشى الحركة تنظيمياّ وإدارياّ بفعل القرارات والحسابات الخاطئة والكمائن السياسية بين الحلفاء، وصولاً إلى تحالف عون وجعجع في معراب تحت شعار “أوعى خيّك”، شعار كان مضمونه تقاسم حصّة المسيحيين داخل الدولة في ما بينهما، والقضاء سياسياً على كلّ من هم خارجهما من كتائب ومستقلّين.