اصطدم جعجع في العام 2009 برغبة حلفائه في 14 آذار في تحجيمه على إثر أوّل انتخابات نيابية يخوضها بعد خروجه الى الحياة السياسية من جديد، وذلك خوفاً من احتكاره الشارع المسيحي المناهض لعون، وعملوا على تكوين قوّة مسيحية معتدلة وتعويمها برعاية رئيس الجمهورية في حينه ميشال سليمان.
فشلوا وأفشلوا جعجع، واجتاح عون جبل لبنان بكامله باستثناء الشوف وبعض عاليه. وعاد الصراع العوني القواتي ليستعر من جديد مصحوباً بكل موبقات العصر الإلكتروني وعاملاً على أبلسة صورة سمير جعجع مستعيناً بالأحكام القضائية “السورية”، ومستعيداً زمن الحرب وكأنّها على الابواب. واستمرّ هذا الواقع كلهوةٍ عونية – قواتية عن الأمور الأساسية إلى أن انتهى عهد ميشال سليمان الذي بدأ إثر أحداث 7 ايار 2008 واتفاق الدوحة، ورشّحه حينها “تيار المستقبل” عبر نائب ثانوي في صفوفه هو عمار الحوري. ما دفع بجعجع والجميّل في حينه إلى الإسراع نحو اليرزة ولقائه استلحاقاً.
إقرأ أيضاً: رحلة سمير جعجع عبر 14 آذاراته (1/2)
في العام 1984، وفي حديثٍ لـ”النهار العربي والدولي” سأل جبران تويني جعجع: “ماذا يعني أن تكون مقاوماً مسيحياً؟”. فأجاب سمير جعجع: “إذا كان هناك إنسان في آخر الهند يحتاج إلى مساعدتك وتستطيع ولا تفعل فلستَ مسيحياً ولن تكون”.
ما يحدث مع سمير جعجع يشبه الأساطير الإغريقية: مناضلٌ أثبت حضوره في واقعه المسيحي، اكتشف شريكه المسلم وأحبّه وانفتح عليه وجعل من 14 آذار 2005 محطة تاريخية وطنية استقلالية في حياته، والأهمّ أنّه رفض أن يستخدم حتىّ من المقرّبين كمطية عسكرية لأهدافهم. ولو أنّه في 7 أيّار سار على رأس قوّة من الصدم التي تحرسه إلى السرايا الحكومي لتشجيع فؤاد السنيورة على الصمود.
قد يُختصر تاريخ سمير جعجع بعبارة واحدة في علم السياسة: “استراتيجيا المواجهة عبر الصمود” وانتظار ظروف أفضل. وها هو يصمد من جديد ويترشّح في وجه عون إلى رئاسة الجمهورية منعاً لوصول مشروع حزب الله إلى السلطة، لأنّ عون، ومنذ العام 1988، كان على استعداد أن يزوّج مشروعه الرئاسي لأيّ مشروع دولي و/أو اقليمي و/أو محلي، بغية تحقيقه، بدءاً بالحروب العبثية (88-90) مروراً بالقرار الدولي 1559 وصولاً إلى شبك الأيدي مع حزب الله، وليس آخرها قبوله واعترافه خطياً باتفاق الطائف “وعملائه” في معراب عشية 18 كانون الثاني 2017، وللهدف نفسه.
سعى جعجع جاهداً لتصفير ترشيح عون عبر ترشيح نفسه، بهدف الوصول عبر ذلك إلى مرشّح وسطي، لكن من دون جدوى. فكان تشدّد وتمسّك حسن نصرالله بعون رئيساً يقابله تراخي واستهتار فريق 14 آذار بترشيح جعجع.
لكن أتى ذلك، في إطار رغبة مسيحية عارمة – بدءاً من بكركي – في أن يكون رئيس الجمهورية ذا قاعدة شعبية وممثلاً لطائفته على غرار رئيسي الحكومة والمجلس النيابي.
وبعد هذا التراخي والاستهتار المعطوف على التسرّع في حلّ مسألة الرئاسة على حساب الاسم والتوازن، عمد جعجع إلى الولوج نحو استراتيجيا المصالحة، حيث يزوّج أهمية استعادة الدور المسيحي في الدولة عبر المصالحة مع عون، ومع مصلحة عون في الوصول إلى قصر بعبدا. واعتمد في الوقت نفسه على عدم تبنّي ترشيح عون إلى الرئاسة طالما هو لا يقترب في السياسة. وكل ذلك في سبيل كسب الوقت وإراحة الداخل المسيحي في لبنان والانتشار، بعد ثلاثين سنة من صراع عبثي سلطوي بلا أيّ مضمون فعلي، ومع خصم شاء نصف المسيحيين أن يكون ممثلاً لهم.
ربح جعجع في المصالحة صورة مسيحية جديدة تشبهه أكثر، وتقدّم على عون في المساحات المحايدة ليظهر أمام الرأي العام كذلك المجالد لأجل قضيته أكثر منه كمثل هؤلاء اللاهثين إلى سلطة. لكنّ استعجال سعد الحريري ترشيح سليمان فرنجية من دون المرور بحليفه الماروني – أي جعجع – خلط الأوراق من جديد.
فرنجية مرشّحاً من قبل “المستقبل” و”الإشتراكي” ونبيه بري، وفرنجية يستمرّ في مقاطعة جلسات الانتخاب الرئاسي كرمى لحزب الله الذي يكارم عون، لتنتهي الجولة بعودة الحريري عن قراره وتبنّي ترشيح عون في تسوية رئاسية غير مسبوقة.
عون، الاستثناء السلبي
كان لعون أن يصنع عهداً استثنائياً عبر تحالفه مع جعجع، فتلك الثنائية المسيحية فتحت الطريق لوضع يد المسيحيين على مقدّرات الإدارة مناصفةً مع المسلمين كما قال الطائف. وأعطت عون عبر المناصفة الوزارية صلاحية الرئاسة في الجمهورية الأولى ولو من دون نصّ. لكنّ الجشع إلى السلطة جعل العونيين يشبهون “شيعة العراق” بعد صدام حسين، لينتهوا إلى انهيار موصوف وسقوطٍ مدوٍّ في منتصف العهد من أعلى الهرم إلى القعر!
يكفي أن تقع لعنة جعجع في منتصف “العهد القوي” الذي عمل بإصرار على إسقاط “اوعا خيّك”، حتّى لا يتجرّأ أبناء الرئيس وصهره ووزيره الأوّل ورئيس حزبه، بالإضافة إلى حاشيته، لا يتجرأون على ارتياد الأماكن العامة، وأولادهم يتعرّضون للتنمّر في المدارس والجامعات.
عاد سمير جعجع إلى “استراتيجية الصمود والانتظار” التي طبعت مسيرة صموده الطويل، كمن لا ينطوي على ذاته ولا يتراجع إلا ليُحسن القفز
والحال هذه، والتسوية الرئاسية تنحصر وتنحسر نحو ثنائية سنية – مارونية ترعى مصالح الشيعة، وتستبعد كلّ مفاهيم الإصلاح والكفاءة وتحتكر الإدارة لصالح الزبائنية وتلغي كلّ مفاعيل اتفاق معراب خصوصاً البند (زين) منه والذي ينصّ على ضرورة المشاركة بين “القوت” و”التيار” في وضع سياسات العهد والشراكة في حدود الكفاءة عبر لجنة برلمانية مشتركة… ليكون تنكيل جبران باسيل بتوقيعه، وتراجعه عن كلّ مضامين الاتفاق ومفاعيله، في سابقة للتاريخ الحديث، كما تردّد ابراهيم كنعان عن الإدلاء بشهادة حقّ.
عاد سمير جعجع إلى “استراتيجية الصمود والانتظار” التي طبعت مسيرة صموده الطويل، كمن لا ينطوي على ذاته ولا يتراجع إلا ليُحسن القفز. وأعلن بالتالي حرباً ضروساً على الفساد في وزاراته وفي الوزارات كافة وعبر نوابه، واستهدف الكهرباء بقصف مركّز، لتكون فاتحة الثورة الشعبية التي تلت، ولكي يحصد جعجع من خلالها تأييداً واسعاً غير مسبوق، ويظهر للرأي العام وأمامه بصورة ذلك المقاوم العتيق الممزوج بطعم نظافة الكف. وتلا حملته هذه، صرخة كلّ لبنان المدوية المتوجعة ثورةً على الفساد والفاسدين. ثورةٌ لا تعرف ماذا تريد، لكنّها تتبنى خيارات جعجع في ما تريد (إسقاط الحكومة، والإتيان بحكومة اختصاصيين) والآتي كثير.
نجح سمير جعجع في التقدّم بالنقاط، ومنع أن يؤخذ بالضربة القاضية من أخصامه. سار على أشواك 14 آذاراته كمناضل يعمل يصمت يدوّي، ويصارع، وكفلاحٍ احترف الأرض، يزرع ويسقي وينتظر وينتظر، وبصمتٍ ينتظر لأنه يعلم أنّ حبوب القمح والسنديانات تظهر وتكبر من تحت التراب… صامتات!