من خارج سياق الخطاب الإيديولوجي جاء تصريح وزير الخارجية الإيرانية محمد جواد ظريف عن الاستعانة بصندوق النقد الدولي بقيمة 5 مليار دولار لمواجهة تداعيات فايروس كورونا، للمرة الأولى منذ العام 1962.
من سوء حظ حزب الله في لبنان أن يأتي تصريح ظريف بعد أيام قليلة على قرار الحكومة التي يرعاها “بتعليق” سداد الديون المستحقة لحملة “اليوروبوندز” وبعد حملة سياسية مرتفعة الضجيج قادها حزب الله ضد اللجوء الى برنامج إنقاذي للبنان عبر صندوق النقد.
إقرأ أيضاً: تمثال سليماني أو نصب الهشاشة
في الحقيقة تفوق القيمة السياسية لتصريح جواد ظريف أطناناً من التحاليل والتحاليل المضادة عن واقع القوة الإيرانية ما بعد حقبة الرئيس الأميركي دونالد ترامب. فهو ينطوى على إقرار مرّ بأنّ لا حلول داخلية لأزمات إيران ولا منافذ مقاوماتية للخروج من الحفرة التي أسقط فيها ترامب نظام الملالي، بعد تهاوي كلّ الرهانات الإيرانية، تارة على الأوروبيين وتارة على الصينيين، وثالثة على أوهام تحالف إيران مع أجسام دولية كمجموعة “البريكس” الأفلة وغيرها.
وها هو النظام الإيراني يطرق أبواب واشنطن ولو بواسطة صندوق النقد، بعد أن استفحلت أزماته جميعاً، سواء تلك المتأتية عن سياسة “الضغط الأقسى” الذي تمارسه واشنطن أو عن الأعطال البنيوية في السياسات الإقتصادية الإيرانية المتخلفة أو إلتقاء هذين الرافدين مع كارثة كورنا الصحية.
لقد إنكشفت إيران في الأشهر القليلة الماضية كما لم تنكشف من قبل، حتى في عزّ حربها مع نظام صدام حسين.
في العراق فشل محمد توفيق علاوي في تشكيل حكومته ضمن مهلة الثلاثين يوماً الدستورية منذ تكليفه بدعم كبير من تحالف الفتح، أي الذراع السياسي لميليشيات الحشد الشعبي، وقبول مرتبك من مقتدى الصدر! وتكاد خلال الساعات القليلة المقبلة أن تنقضي المهلة الدستورية التي تلزم رئيس الجمهورية خلالها تكليف مرشح بتشكيل الحكومة خلال 15 يومًا من فشل أو اعتذار المكلف السابق، من دون إتفاق سياسي على اسم مؤهل تشكيل حكومة.
عجز إيران عن ملء الفراغ الحكومي العراقي بما يناسبها، زاد عليه، منذ اغتيال واشنطن لقاسم سليماني وقائد الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس في بغداد، مستوى غير مسبوق من الإنقسام بين فصائل الحشد نفسها.
دخول موسكو نفسه الى الملعب السوري في أيلول 2015 بطلب مباشر يومها من قاسم سليماني يشير بوضوح إلى تقاطع الهواجس الأمنية الروسية الإيرانية المشتركة
فمنذ تعيين عبد العزيز المحمداوي، من كتائب حزب الله، رئيسا لأركان الحشد الشعبي، خلفاً للمهندس، إنفجرت الخلافات بين فصائل الحشد الموالية لإيران وفي طليعتها ميليشيا كتائب حزب وبين فصائل مقربة من المرجع الشيعي الأعلى آية الله علي السيستاني. فمرجعية النجف تدفع بإتجاه تولي الحشد الشعبي شخصية مستقلة لا سوابق لها في التورط بالقتال في سوريا أو بقمع التظاهرات العراقية ولا معروفة الارتباط بالحرس الثوري الإيراني ومكتب المرشد على خامنئي.
تراخي القبضة الإيرانية في العراق يقابه تراخٍ لقبضتها في سوريا لصالح روسيا لا سيما بعد مقتل سليماني، مهندس الحرب الإيرانية في سوريا.
لا ينبغي الاستعجال في التقليل من أهمية كل من روسيا وإيران لبعضهما البعض. فعبر إيران وميليشياتها المنتشرة من سوريا إلى أفغانستان يمكن لروسيا أن تمارس الشغب عند الضرورة على الأميركيين من دون التورط في حرب مباشرة. وبالشراكة مع إيران تخلق موسكو لنفسها نادياً إقليمياً من الدول، يقوي موقفها في نادي الكبار الدولي الذي تنتمي إليه. كما أنّ النخبة “الأوراسية” الروسية، أي التي تنظر لعمق روسيا الأوروبي الأسيوي، ترى في إيران نقطة التقاطع المثالية وتدفع بإتجاه إبقاء إيران في فلك العلاقات الإيجابية لخدمة المصالح الروسية الأوراسية ولخدمة النفوذ الروسي في الشرق الأوسط. في المقابل وبشكل متزايد مؤخراً، تعتمد إيران ديبلوماسياً وإقتصادياً على موسكو. فخلال عرض الموازنة الإيرانية الأخيرة نهاية العام الفائت، على مجلس الشورى أشار الرئيس الإيراني حسن روحاني إلى أنّ ما أسماه موازنة “للصمود” بمواجهة العقوبات الأميركية، تتضمن دعماً روسيا بقيمة خمسة مليارات دولار.
كما أنّ دخول موسكو نفسه الى الملعب السوري في أيلول 2015 بطلب مباشر يومها من قاسم سليماني يشير بوضوح إلى تقاطع الهواجس الأمنية الروسية الإيرانية المشتركة.
لا يلغي ذلك أنّ العلاقات الروسية الإيرانية مبنية دوماً على مستويين من الحسابات الصعبة الاستراتيجية والتكتيكية، كما أنّها علاقات مسيّجة دوماً بضعف الثقة المتبادلة.
في يوم جنازة سليماني في إيران هبطت طائرة بوتين في سوريا. وفيما كان المرشد يذرف الدمع فوق جثمان جنراله الأوّل كان القيصر الروسي يتبادل الابتسامات مع بشار الأسد الذي جيء به إلى قاعدة عسكرية للقاء، كأنّه يقول إنّ سوريا ساحة نفوذ روسي تؤخذ فيها بعين الاعتبار مصالح إيران وليس العكس. فمعارك إدلب الأخيرة التي انخرطت فيها إيران عبر حزب الله على الجانب الروسي وفي مواجهة تركيا، وكبدت الميليشيا اللبنانية خسائر كبيرة نسبياً في الأرواح، تشير بوضوح الى أنّ القرار في سوريا روسي أولاً، تتموضع إيران تحت سقفه. ولشد ما كانت خيبة أهالي عناصر حزب الله ممن سقطوا في إدلب، وهم يتابعون الدعوات الإيرانية العلنية للحوار بين أنقرة وموسكو وطهران، بعد أن تابعوا فيديوهات قتل أبنائهم التي التقطتها طائرات تركية مسيرة.
قد يبدو لبنان هو الساحة الأخيرة التي ستحرص إيران على عدم خسارتها وهو ما يفسر الموقف الحاد الذي يقارب الرُهاب من اللجوء إلى صندوق النقد الدولي للاستفادة من برامجه.
فظن حزب الله، والظن في مكانه، أنّ التسليم بوصاية صندوق النقد يضعف قبضة إيران على لبنان، بمثل ما ضعفت في العراق وسوريا.
حتى أيام خلت كان يمكن القول إنّ الحزب نجح في تجاوز مثل هذا الخيار. غير أنّ تصريح ظريف، عن توجه إيران لطلب تدخل صندوق النقد الدولي لمساعدة بلاده في مواجهة كورونا، سيعيد وضع خيار صندوق النقد على الطاولة بخصوص لبنان وأزمته الإقتصادية المستفحلة.
ليست المرة الأولى التي يتراجع فيها حزب الله بعد طول ممانعة وقد يكون تراجعه هذه المرة أسرع من المتوقع. فمن فضائل الازمات الوجودية أنّها تمتحن الخطابات والمواقف الإيديولوجية وتدجن العنتريات أمام وطأة الوقائع.