مقبرة الغرباء (1/4): 120 عاماً من الحياة مع الأموات

مدة القراءة 5 د


كان الطقس بارداً جداً. المنخفض الجوي “كريم” الذي ضرب لبنان في بداية الأسبوع الثاني من شباط في أعلى درجات تأهبه، لا سيما في المناطق الشمالية. كانت الحركة شبه معدومة، في تلك الأزقة الغريبة، وكأنه مشهد هارب من فيلم هوليودي بتقنياتٍ متطورة من الفوضى والعشوائية. أما رائحة الإهمال فطغت على كلّ شيء، حتى رائحة الموت، بل تجاوزتها بأشواط، حيث الأموات هنا غرباء والأحياء أيضاً.  

نتناول في هذا التحقيق مقبرة الغرباء في محلة الزاهرية في طرابلس، على بعد أمتار قليلة عن دوار أبو علي، في حلقات تنقل يوميات 500 عائلة من شتات طرابلس والشمال اتخذوا من المقابر سكناً لهم.

بينما نحن مبهورون بسيناريو الحوار الهجين بين الموت والحياة، في هذه البقعة الغريبة التي يبدو أنّ زعماء طرابلس المقتدرين لا يبالون بها، بدأت السماء بإسقاط غضبها الشتوي على بيوتٍ لا تكاد تصمد، وعلى بنية تحتية لفظت مياه الصرف الصحي خارج الأمتار الضيقة التي تفصل بين المنازل، ونفايات أخفت أطراف القبور، يصرخ أحدهم: “تفضلوا تفضلوا من هالشتي… يا عيب الشوم البيت بيتكن”.

إقرأ أيضاً: عن احتضار سوق فرن الشبّاك

ندخل بيتاً ليس أفضل حالاً بكثير عن الخارج، أصوات الصفيح المتمرّد على حبّات البرد حجبت السمع لدقائق قبل أن تهدأ وتطفىء شريط الرعب المزعج. البيت بأرضيته الاسمنتية الخشنة، الصغير بمساحته، الكبير بمحبته، تسارع صاحبته لاستضافتنا وتصرّ على إجلاسنا مكانها، وتتسابق هي وزوجها على كلمات “الأهلا وسهلا”. نحاول تعريفهما بأنفسنا، وبخلفية الزيارة الصحافية، فيبادر واصف العبد، الملقب بـ”أبو مصطفى” لتعريفنا بأنه لا تهمّه الغاية التي جئنا لأجلها إلى مقبرة الغرباء بقدر ما أنّه يريد حمايتنا من حبّات البرد المجنونة. 

الرجل الستيني المضياف الحريص على سلامتنا من الطقس الجائر، لا يبدو أن الحياة حريصة عليه بالطريقة نفسها. فهو الذي ولد في مقبرة الغرباء ويعيش في منزل واحد مع زوجته وابنه وزوجة ابنه وأحفاده الصغار، وهو عاطل عن العمل منذ أكثر من أربعة أشهر “بسبب قلّة الشغل” ويعمل في توريق الجدران وأعمال الدهان، وهي الأشغال التي بدأ بها قبل سنتين بعد أن صادرت البلدية بسطته حيث كان يبيع الخضر خارج المقبرة.

تصرّ أم مصطفى على أن نشرب القهوة قبل الخوض في الحديث الطويل مع زوجها عن تاريخ المنطقة. أبو مصطفى، الذي يعود أصله إلى التبانة، يُعتبر والده محمد رشاد العبد من أوائل قاطني المقبرة منذ أكثر من 120 سنة، حينما كانت بيوتها تعدّ على الأصابع، متفرفة بين آل حمود، طرابلسية، دروبي، السبع، شراقية، حربا، وسعيد،  كلّهم قصدوا المنطقة طلباً للرزق، حيث كان لجانب المقبرة أراضٍ لـ”السقي” وفيها “جنينات”، أي حقول وأراضٍ خضراء تحتاج للريّ: “وعنتر ما كان يسترجي يفوت عليها كلها زواقيق وقصب”، على حدّ تعبيره لتوصيف واقع الحال قبل أكثر من مئة عام. 

يتابع واصف العبد سرد رواية الأب الأولى مع هذه البقعة الغريبة للسكن، فكانت دوافع والده مغايرة لدوافع العائلات الأولى التي قصدت المقبرة: “فكان له مزاجٌ بالغناء والبزق”، وجاء طلباً للهدوء وقام ببناء “تخشيبة” وزرع الورود إلى جانبها ومن بعدها جاء بوالده (أي جد واصف العبد)، ووالدته، ومن بعدها كبرت العائلة واتخذت من المقبرة مستقراً لها، وهنا بدأت الحكاية.

بدأت العائلات تقصد المقبرة للعيش بتزايد قبل ما يقارب الـ50 سنة، تبعاً لحسابات أبو مصطفى، وهي اليوم تضم أكثر من 300 بيتٍ وفيها أكثر من 400 عائلة من مختلف مناطق الشمال “الضنية، فنيدق، عكار مشمش”، وغيرها.

كلفة الدفن في مقبرة الغرباء بحدها الأدنى تبلغ 400 ألف ليرة

ولتسمية المقبرة أيضاً حكاية يعرفها واصف العبد، كما ينقلها عن والده وجده، فمنذ أحداث الـ1914، ويقصد هنا الحرب العالمية الأولى، كان كل غريب عن المنطقة يسقط  في الحرب يُدفن فيها، ومن ثم أصبحت تستقبل رفات الأموات العلويين في الحرب الأهلية اللبنانية، قبل أن يخصص لهم مقبرة في جبل محسن، ومن هنا جاءت التسمية “مقبرة الغرباء”.

المفارقة أنّه بينما أهالي مقبرة الغرباء لا يُدفنون فيها، بل في ضيعهم أو في مقابر التبانة وباب الرمل والقبة لمن هم طرابلسيو الأصل، إلا في حالات استثنائية، بدأت تحصل مؤخراً وبات “يُسمح لدفن رفات السُنة فيها”. يعتذر هنا أبو مصطفى عن العقلية التي كانت سائدة باعتبار “غير السنّي” غريباً عن طرابلس ويعلن احترامه لكلّ الأديان، علماً أنّ هذا تقليدٌ لا علاقة له به لا من قريب ولا من بعيد.

ويعيد الحديث لأصله ولدفن أهالي المقبرة في قراهم ويقول: “قبل يومين توفي أحد الأهالي من آل الجمل وتم نقله الى قريته قرسيطة للدفن”.

وماذا عن كلفة الدفن في المقبرة؟ يضحك ابو مصطفى هنا ويقول: “هووو هوو حتى اللي بموت بهالبلد بدّو يدفع ضريبة”، ويلفت إلى أنّ كلفة الدفن  في مقبرة الغرباء بحدها الأدنى تبلغ 400 ألف ليرة، ما بين رسوم لدائرة الاوقاف صاحبة الملك، وبين أجرة حفر القبر والغسل وثمن الكفن وغيرها”.

 

مواضيع ذات صلة

روايات ليلة سقوط الأسد… وخطّة الحزب “لإعادة التموضع”

في الحلقة الثانية من هذا التحقيق، تلاحق مراسلة “أساس” روايات العائلات النازحة في البقاع الشرقي وتحديداً منطقة الهرمل. وتسألهم عن ليلة السقوط الكبرى. كما تسأل…

لماذا يخاف شيعة البقاع من “بُعبُع” المعارضة السّوريّة؟

سقط بشّار الأسد وعاد عدد كبير من النازحين السوريين إلى بلدهم. لكن في المقابل شهدت مناطق البقاع، وتحديداً بعلبك الهرمل، نزوحاً معاكساً هذه المرّة للسوريين…

إسرائيل تضرب حيّ السّلّم للمرّة الأولى: هل تستعيده الدّولة؟

بقي حيّ السلّم على “العتبة”، كما وصفه عالم الاجتماع وضّاح شرارة ذات مرّة في كتابه “دولة حزب الله”. فلا هو خرج من مجتمع الأهل كليّاً…

أمن الحزب: حرب معلومات تُترجم باغتيالات (2/2)

لا يوجد رقم رسمي لمجموع شهداء الحزب في حرب تموز 2006، لكن بحسب إعلان نعي الشهداء بشكل متتالٍ فقد تجاوز عددهم 300 شهيد، واليوم بحسب…