حنينٌ إلى لبنان “أمين معلوف”

مدة القراءة 4 د


في إحدى الحلقات الحوارية النادرة والبديعة، أطل كمال جنبلاط وريمون إده ورشيد كرامي ضمن برنامج سياسي يقدّمه الزميل عادل مالك. بدا للوهلة الأولى أن الرجال الثلاثة يتنافسون في مقدار لياقتهم، ومؤشرات فرادتهم، وقطعيّة نُبلهم، بينما يرفعون مُتحدين ومنفردين حدود الذوق نحو منتهاه، غير آبهين بجماهير قد تتعطش لسوقية أو شعبويات، وكأنهم حراسٌ أبديون على السموّ والرقيّ والأصول. هكذا يصبو الواحد فيهم نحو لبنان، وفكرته، ورسالته، فيصير صنوه ونديمه وعنواناً دائماً من عناوين مجده وعزته وكرامته.

إقرأ أيضاً: لينا بوبس.. “أم الثورة”

ترشّح ريمون إده، ذاك العميد العنيد الفريد، بوجه فؤاد شهاب، ذاك اللواء الأمير الذي استحال شهيًا مستساغًا كعسل مُصفّى. ترشّح وهو يدرك في عميقه أن الرئاسة تجثو على ركبتيها أمام هامات الكبار. وأن غريمه فاز قبل أن يفوز. لكنه لم يرضخ. قال للأقربين والأبعدين: لن أتراجع. سأكمل حتى النهاية. ثم خاطب غسان تويني بلسانه الذبّاح، وعقله النيّر، وبصيرته المتوقدة: لن أنجرف في موجة العسكر. ها هم يقبضون على المنطقة من مضيقها إلى مضيقها. لبنان هذا مختلف. فلينجح فؤاد شهاب، ولكن من تحت قبة البرلمان، وتحت سقف منافسة ديمقراطية واضحة وشفافة. هكذا نقول للمنطقة والعالم إننا أبناء دولة، وأهل مؤسسات، وأصحاب أصول. ولاحقًا، لاحقًا عندما أموت، أُنقشوا على جدارية نعشي: هنا يرقد ريمون الذي كان على حق. وكم كان يومذاك على حق.

بقي أن يقابله فؤاد شهاب الحرص بالحرص. والترفّع بالترفّع. لربما هو الجنرال والعسكري الوحيد في هذا الكوكب الذي رفض مناشدات جماعية لامست حدود التمنّي والترجّي، بل والإصرار على تمديد ولايته. لكنه رفض واعتكف وابتعد احترامًا، ليس لأنه ضنين بهذه البلاد وحسب، بل لكونه جزءًا لا يتجزأ من قيمها، وعزتها، وعلوّ قدرها وشأنها. هكذا عاش وهكذا مات. رجلٌ ولا كل الرجال. ظل ينافس بنزاهته، ومناقبيته، وتفانيه حتّى حطت به الرحال في فراشه الأخير، وقد ترك خلفه إرثًا ناصعًا وتجربة بديعة، وزوجة تبحث عن سبيل لدفع ديونها المستحقة لدكانة الحي.

هكذا كان لبنان. على شاكلة هؤلاء الكبار الكبار الذين أرادوه أيقونة متوهجة في قلب هذا الشرق الحزين. ظلّ جمال عبد الناصر يستقبل كمال جنبلاط ويستمع بعناية إليه وكأنه ملك أو رئيس أو زعيم يتصدّر واجهة المنطقة ويختصر شجون العروبة والعرب. وظلت فيروز تصدح بصوتها الملائكي في عواصمهم وحواضرهم وهي تغني للشام والقدس ومكّة. وظلت روز اليوسف سفيرتنا البهية الرشيقة إلى النيل وإلى الحضارة التي لا تزال تدوّن اسمها في لائحة الخالدين. هكذا أيضًا كانت حكاية أسماء لا يتسّع لتعدادها. تركوا بصماتهم التي حُفرت بالأزاميل في ذمة التاريخ، وفي وعينا الذي يأبي أن يرضخ أمام كل ما نشهده من ابتذال معطوف على كمٍّ فظيع من التسطيح والتصحّر والانعدام.

هو حنينٌ عفويٌ وصادقٌ إلى بلاد نُشبهها وتُشبهنا، وإلى لبنان الذي نريده ونشتهيه

صورتان طبعتا وجه الأسبوع المنصرم، وهما تستحقان معًا فترة لا بأس بها من التمحّص والتأمل والتدقيق. ميشال عون يجلس على كرسي النفط والغاز في عرض البحر ليطلق صفارة البدء بعمليات الحفر. وإيمانويل ماكرون يندفع مُتحمسًا ومبتسمًا نحو أمين معلوف ليقلّده وسام الاستحقاق الوطني في حفل مهيب. الصورة الأولى قد ترفعنا إلى مرتبة دبي وقد تهبط بنا إلى قاع فنزويلا. أما الثانية فهي وحدها من قد يُعيد لبنان إلى صدارته وحضوره ودوره الذي يفوق في شكله وفي مضامينه كل نفط العالم.

ثمة في تكريم أمين معلوف رسالة جليّة وواضحة وضوح الشمس في رابعة النهار. هي رسالة الأمل واليقين، ليس بقدرتنا على التوثب وعلى نفض الغبار وحسب، بل بإعادة ترسيخ إيماننا وتأكيد إدراكنا العميق أنّ هذا اللبنان لن يُسلّم بسهولة إلى الدلع والتدلل. هو بُني بمشقة كبرى ليكون جرمًا في مدار الحضارات، لا حلقة مُفرغة في متاهات الذات الدائرية، ولا بد أنّ هناك من سيظل يدافع ضد ذوبانه أو ضياعه بين الأقدام. لقد أمضى قرونًا يُقدّم عقولاً لا أقدامًا، على ما يقول سمير عطاالله في واحد من أبدع وأروع نصوصه على الإطلاق. 

هذا ليس شعرًا مستهلكًا أو بكاءً على الأطلال، وليس فولكلورًا ممزوجًا بالركاكة أو الزجل. هو حنينٌ عفويٌ وصادقٌ إلى بلاد نُشبهها وتُشبهنا، وإلى لبنان الذي نريده ونشتهيه.

 

مواضيع ذات صلة

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…

ردّاً على خامنئي: سوريا تطالب إيران بـ300 مليار دولار

 أفضل ما كان بمقدور إيران وقياداتها أن تقوم به في هذه المرحلة هو ترجيح الصمت والاكتفاء بمراقبة ما يجري في سوريا والمنطقة، ومراجعة سياساتها، والبحث…

إسرائيل بين نارين: إضعاف إيران أم السُنّة؟

الاعتقاد الذي كان سائداً في إسرائيل أنّ “الإيرانيين لا يزالون قوّة مهيمنة في المنطقة”، يبدو أنّه صار من زمن مضى بعد خروجهم من سوريا. قراءة…

تركيا والعرب في سوريا: “مرج دابق” أم “سكّة الحجاز”؟

الأرجح أنّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان كان يتوقّع أن يستقبله أحمد الشرع في دمشق بعناقٍ يتجاوز البروتوكول، فهو يعرفه جيّداً من قبل أن يكشف…