اتفاق سوتشي الموقع بين الجمهورية التركية والاتحاد الروسي في 17 أيلول 2018 لم يجد طريقه إلى التنفيذ لتحقيق استقرار الأوضاع داخل منطقة خفض التصعيد في إدلب، بل استمرّ الصراع العسكري على أشدّه، عندما استشعر الروس والنظام السوري من الأتراك ضعفاً يمكّنهم من إنهاء حالة المعارضة في ما تبقى من الشمال السوري، وحسم الموقف والذهاب باتجاه فرض الأمر الواقع وتشكيل نظام سياسي على قياس مصالح موسكو ومن تشاء من حلفاء.
سعى الروس وحلفاؤهم إلى إخراج تركيا وإلغاء منطقة خفض التصعيد في إدلب، عبر ضرب نقاط المراقبة التركية ومنعها من الاستمرار في عملها، بعكس ما نصّ عليه اتفاق سوتشي تماماً.
إقرأ أيضاً: حزب الله يضع لبنان على حافة الهاوية
في الميدان، كان واضحاً أن الجانب الروسي ومعه الإيراني، لم يأخذا هذا الاتفاق على محمل الجدّ، ولهذا دفعا بنظام الأسد للتقدم وصولاً إلى محاصرة نقاط المراقبة التركية والاستيلاء على المدن والقرى الواقعة ضمن نطاق الاتفاق.
لكن الحدث الأكبر جاء في 28 شباط 2020 مع استرداد المعارضة لمدينة سراقب وما حولها من بلدات، بغطاء ناري تركي بري وجوي، وقصف نقطة تجمع للجنود الأتراك ما أدى إلى مقتل 33 جندياً، وهو الذي دفع إلى صدور قرارٍ تركيّ بإعلان الحرب على النظام وإطلاق حملة عسكرية عنيفة حملت اسم عملية “درع الربيع” في الأول من آذار الحالي. وهناك من يقول إنّ الإيرانيين هم من حاولوا إيقاع الاشتباك بين روسيا وتركيا ولكنهم فشلوا، وهذا يفسّر “الحياد” الروسي في إدلب.
وسط هذه المعمعة، كانت المعلوماتُ تتسرّب عن وجود مجموعاتٍ من مقاتلي “حزب الله” في جبهات إدلب، وعن تعرّضها لقصفٍ عنيف وخسائر في صفوفها، ما أدى إلى توتـّر الأجواء في الضاحية الجنوبية، وسط قلقٍ من الأهالي على مصائر أبنائهم مع بدء تسرّب صور وأفلام من هناك، وعن أخبار سقوط قتلى وجرحى وأسرى في قبضة الجيش التركي وحلفائه من الفصائل السورية المعارِضة.
وتأكّد تعرّض مجموعات من “حزب الله” لضرباتٍ عنيفة وخسائر استدعت توجـّه المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم إلى أنقره للتوسط من أجل التوصل لإخلاء قتلى الحزب وجرحاه ومقاتليه من النقاط التي تعرّضوا للقصف فيها ووضع نقاط تمهّد للهدنة مع النظام السوري وحلفائه. فصدر البيان الهادئ عن بشّار الأسد، بخصوص العلاقات السورية – التركية، واستكمل بوقف الأعمال القتالية في بيان صدر بعد لقاء بوتين – أردوغان، بالتزامن مع محادثاتٍ تركية إيرانية مباشرة، لمعالجة ما يعتبره الأتراك خرقاً من طهران لتعهداتها بعدم المشاركة في معارك الشمال السوري، وخصوصاً إدلب، بعد أن كشف المرصد السوري المعارض أن 70 % من القوات المشاركة في معارك سراقب إيرانية.
حاولت قيادة “حزب الله” احتواء الموقف، فحشدت الناس في تشييع القتلى ودفعت أهاليهم إلى الإعلام، لتقول الأمهات إنها هي التي أرسلت أبناءها للقتال في سوريا وأنها ليست نادمة، بل إنها فخورة بـ”إستشهاد” أبنائها، الذين قاتلوا في كل سوريا ثم قتلهم أردوغان في إدلب.
هل يتحمّل لبنان أن تكون طهران العاصمة الوحيدة المفتوحة أمام علاقاته الخارجية بعد خسارة دول الخليج والغرب الأميركي والأوروبي؟
أظهرت الوقائع الميدانية حقيقة القدرات القتالية لمجموعات “حزب الله”، وهو ما عبّر عنه مقاتلوهم في أفلام أرسلوها إلى ذويهم.
واجه “حزب الله” “ورطته” بحائط سميك من التكتـّم والمكابرة ورفض الاعتراف بكل ما سجـّله الميدان من انكشافٍ لحقيقة حجمه وقدرته على البقاء في “صراع الأفيال”. وكان معبـّراً جداً كلام أحد المقاتلين (جمال ترشيشي) في كلماته قبل أن يلقى حتفه في فيديو انتشر بكثافة على مواقع التواصل في لبنان إدخال التالي:”بكربلا الكل استشهد، ونحن فدا رجليكِ يا زهراء، بس للصراحة ما عاد فينا نحمل لأنهم حصدونا حصد”.
يواجه “حزب الله” أسئلة صعبة يفرضها عليه انخراطه في ملف إدلب:
ــ ما هو مصير المجموعات التي زُجّ بها في جبهات القتال مع عودة المواجهات إذا تعثّرت الوساطات؟
ــ كيف سيتعامل الحزب في حال قرّرت إيران المضيّ قـُدُماً في معركة إدلب ضد تركيا؟ وهو ما لن يحصل على الأرجح.
ــ كيف سينعكس الصراع بين إيران وتركيا على الحكومة اللبنانية التي يهيمن “حزب الله” على قرارها؟ وهل يتحمّل لبنان أن تكون طهران العاصمة الوحيدة المفتوحة أمام علاقاته الخارجية بعد خسارة دول الخليج والغرب الأميركي والأوروبي؟
ربما لم ينتبه الإيرانيون إلى سلسلة تحوّلاتٍ كبرى تجعل الدائرة تدور عليهم، منها إبرام اتفاق السلام بين الولايات المتحدة وحركة طالبان، في ما يمكن اعتباره تصفية لذيول أحداث 11 أيلول 2011، واحتدام الحملة الأميركية عليهم واتساعها. وهنا قد يكون دور أردوغان في ضرب الميليشيات الإيرانية مطلوباً ومرغوباً في هذه المرحلة مع ابتعاد المسافات بين طهران وواشنطن في عهد ترامب، وربما هي تُساق إلى مصارعها ونهاياتها سوقاً.
يخسر لبنان من شبابه في الميدان، ويخسر المزيد في علاقاته العربية والدولية، بينما يمضي “حزب الله” على طريق المشروع الإيراني، ولو على حساب بيئته الحاضنة ودولته التي يعيد إلى ترابها شباناً قُـتِلوا من أجل مشروعٍ امبراطوريّ لا يشبع من الدماء ولم ينجح إلا في نشر الاضطرابات والحروب في المنطقة.