ماذا ينفع المواطن اللبناني كلّ نفط العالم وغازه إذا لم يكن في استطاعته التصرّف بأمواله المودعة في المصارف اللبنانية. لا ينفع ذلك المواطن اللبناني في شيء، أكان فقيراً أو متوسّط الحال أو غنيّاً. ليس الهرب إلى البحث عن النفط والغاز، ونشر الأوهام، سوى محاولة أخرى للتغطية على الأزمة الحقيقية ذات الطابع المصيري التي يعاني منها لبنان. هذه الأزمة هي الأولى من نوعها منذ قيام لبنان الكبير قبل مئة عام. لم تحدث أزمة من هذا النوع إلّا في أيّام “العهد القويّ” الذي بدأ في الواحد والثلاثين من تشرين الاوّل 2016. مع “العهد القوي”، بدأ عملياً “عهد حزب الله” الذي استطاع فرض مرشّحه رئيساً للجمهورية.
أن تحتجز المصارف أموال اللبنانيين يعني أن لا مصارف لبنانية بعد الآن. يعني ذلك بكلّ بساطة أن لا اقتصاد لبنانياً بعد الآن. لا اقتصاد يعني موت لبنان. لا ينفع في إنعاش لبنان كلام ومواضيع إنشاء في مستوى صف السرتيفيكا (شهادة نهاية المرحلة الابتدائية) من نوع الخطاب الذي ألقاه أخيراً رئيس الجمهورية ميشال عون في مناسبة بدء استكشاف النفط والغاز في المياه اللبنانية.لا يفيد اللبنانيين الهروب إلى الأمام في شيء. ما يفيدهم هو مواجهة الواقع المتمثّل في أنّ بلدهم ما يزال أسير السلاح غير الشرعي لـ”حزب الله” الذي ليس سوى لواء في “الحرس الثوري” الإيراني، يقاتل في سوريا وغير سوريا، في اليمن والعراق خصوصاً، خدمة لمشروع توسّعي إيراني يقوم على إثارة الغرائز المذهبية. مثل هذا المشروع على تناقض كلّي مع فكرة لبنان من أساسها. بل ينسف فكرة لبنان الكبير كوطن لكلّ أبنائه، من كلّ الطوائف والمذاهب، من دون أيّ تمييز من أيّ نوع.
إقرأ أيضاً: 2020-2005: إكتمال الانقلاب
يصبّ ما يحصل عملياً في لبنان هذه الأيّام ضمن مشروع آخر لا علاقة له بلبنان. يستهدف هذا المشروع تهجير مزيد من اللبنانيين، خصوصاً من المسيحيين، كي تزداد حال اللاتوازن في البلد.
هناك موجة هجرة لبنانية حقيقية وكبيرة حصلت في السنتين 1989 و 1990 بعد حربي “الإلغاء” والتحرير” اللتين شنّهما رئيس الحكومة الموقتة ميشال عون، بعدما وجد نفسه في قصر بعبدا من أجل مهمّة وحيدة هي تأمين انتخاب رئيس للجمهورية خلفاً للرئيس أمين الجميّل الذي انتهت ولايته في الثالث والعشرين من أيلول 1988.
خلال وجود ميشال عون في قصر بعبدا، بين خريف 1988 والثالث عشر من تشرين الأوّل 1990، عندما أخرجه الجيش السوري من القصر إلى بيت السفير الفرنسي، هاجر عشرات آلاف المسيحيين من لبنان. لم يسبق لمثل هذا العدد من المسيحيين أن اتخذ قراراً بترك البلد. وقتذاك، هاجم ميشال عون مناطق إسلامية بالمدفعية الثقيلة، ثم ما لبث أن خاض حرباً ضدّ “القوّات اللبنانية” التي كانت لا تزال ميليشيا وليست حزباً سياسياً.
حرّر ميشال عون في تلك المرحلة مناطق عدّة… من المسيحيين. لم يمنع ذلك الدكتور سمير جعجع من توقيع اتفاق معراب معه في العام 2016 واضعاً الأطراف اللبنانية الأخرى أمام أمر واقع. هذا الأمر الواقع، هو أن يكون ميشال عون مرشّح “حزب الله” رئيساً للجمهورية… أو لا جمهورية بعد الآن.
الأكيد أنّ سمير جعجع يمتلك حسابات خاصة به. لكن ما هو أكيد أكثر من ذلك، ما تتداوله سفارات أوروبية في بيروت عن تأثير الأزمة الاقتصادية في وضع المسيحيين في لبنان، وذلك بسبب انتشار البطالة.
التطورات الإقليمية التي لا تصبّ في مصلحة “الجمهورية الإسلامية” هل تخدم المشروع التوسّعي الإيراني الذي يشمل لبنان
هناك خوف لدى هذه السفارات من موجة هجرة جديدة للبنانيين، خصوصاً من المسيحيين، ستزيد من حال اللاتوازن ديموغرافياً في البلد. ستعني مثل هذه الهجرة أنّ الطريق إلى المثالثة المسيحية – الشيعية – السنّية صارت معبّدة. هل هذه مهمّة عهد ميشال عون؟ هل هذا هو السبب الحقيقي وراء إصرار “حزب الله” على أن لا مجال لأن يكون أحد غيره رئيساً للجمهورية؟
من الواضح أنّ حال الإفلاس والانهيار الاقتصادي التي وصل إليها لبنان تساعد في تنفيذ مخطّط “حزب الله” الساعي إلى “مؤتمر تأسيسي” في مرحلة ما، لتكريس المثالثة بديلاً من المناصفة بين المسيحيين والمسلمين.
هذا لا يمنع من طرح سؤال يمكن أن تكون له أهمّيته: التطورات الإقليمية التي لا تصبّ في مصلحة “الجمهورية الإسلامية” هل تخدم المشروع التوسّعي الإيراني الذي يشمل لبنان… أم أنّ تصفية قاسم سليماني قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري” الإيراني هي بداية النهاية لهذا المشروع، مع ما يعنيه ذلك من انعكاسات إيجابية على لبنان. إنّها انعكاسات لن ترى النور قبل نهاية “العهد القويّ” الذي يخشى أن يكون عهد الهجرة المسيحية الكبرى الثانية من لبنان في 2020 بعد الهجرة الكبرى الأولى في 1989 و 1990!
نبدأ غداً في نشر ملف بعنوان “مسيحيو لبنان ليسوا في خطر”.