لبنان ليس فقيراً بأغنيائه. ويمكن لهؤلاء أن يكونوا خير سند للقطاع الصحي في أزمته، ليحموا أنفسهم وعائلاتهم من المرض قبل غيرهم. فالوباء لن يعفي أياً منهم. ولا بدّ من الميسورين أن يتعالوا عن “بخلهم” في هذه اللحظات الصعبة ليدعموا المستشفيات الحكومية.
وفي هذا السياق، وجّه الدكتور نسيم خوري، وهو أستاذ في كلية الإعلام “نداء حاراً من موتى العالم في أعماق الأرض وفي السماء ومن كافة الأنبياء من دون كفوف أو ألقاب”، إلى الميسورين من السياسييين قال فيه: “لن ينفع قرار التعبئة العامة في لبنانكم وقد لا ينفع إعلان حالة الطوارىء ما لم تقوموا بالتواصل السريع في ما بينكم وتعلنوا عن تأسيس صندوق طوارئ تملأونه من فضلكم وجيوبهم بهدف تمكين الأعداد الهائلة من اللبنانيين الذين حاصرهم الفقر والجوع والمرض ولربما الموت بالكورونا، أن يقطعوا، ونقطع جميعاً معاً هذه المرحلة الصعبة الطويلة والعسيرة التي قد لا يسلم منها اللبنانيون ولبنان”.
تُظهر الدراسات المكدّسة في وزراة الصحة، أنّ هناك حاجة لحوالي 30 مليون دولار لإعادة تجهيز المستشفيات الحكومية بحدودها الدنيا لكي تتمكّن من التشخيص والمعالجة، فيصير بإمكانها سدّ الحاجات في مختلف المناطق اللبنانية بشكل يخفّف من الأعباء الملقاة على عاتق مستشفى الحريري وعدم تعريض ذوي الدخل المحدود للذلّ أمام المستشفيات الخاصة التي حضّرت طواقمها لمواجهة الوباء.
إقرأ أيضاً: سياسيو الـ33 مليار دولار: فكّوا “القصبة” وجهّزوا المستشفيات(1/1)
يقول أحد وزراء الصحة السابقين: “إنّ بعض المستشفيات الحكومية شبه جاهزة، لكن الخلافات السياسية تحول دون ضمّها إلى غيرها من المستشفيات العاملة. فيما يفتقر البعض الآخر إلى الحدّ الأدنى من التجهيز. قليلة هي المراكز الصحية الممكن الاستعانة بها سريعاً، منها مستشفى طرابلس، ومستشفى بعبدا، ومستشفى النبطية… أمّا البقية فمتهالكة”.
مستشفى “عبد الله الراسي” في عكار مثلاً يتم وضعه عن قصد خارج المعادلة الصحيّة، بسبب النقص الفاضح في الأقسام والمعدات، والمحاصصة السياسية التي حالت طوال الأعوام الماضية دون تأهيله وتجهيزه ودون تعيين مجلس إدارة جديد قادر على القيام بالأعمال المطلوبة. لا يحتوي غرفاً للعناية الفائقة فيما حصة عكار من وزارة الصحة لا تتعدى الـ8 %. وهذه ربما تكون مسؤولية الرئيس عصام فارس في الأيام المقبلة.
أما مستشفى بعلبك فأقل من مستوصف، ويفتقد إلى مركز أشعة. يعاني من مشاكل «نشّ» كبيرة، ومن خطأ بنيوي في توزيع الأقسام وفي هندسة المبنى، إضافة إلى جملة من الإصلاحات التقنية اللازمة، تقدّر كلفتها بنحو خمسة ملايين و300 ألف دولار. وبعلبك مليئة برجال المال والأعمال، وهي أيضاً مسؤولية الثنائي الشيعي وبيئته.
وتعاني مستشفى “خربة قنافار” في البقاع الغربي والتي بنيت بهبة من السفارة اليونانية، بقيمة نحو 650 ألف أورو، وقد وضع الحجر الأساس لها في العام 2010 وافتتحت في العام 2015، كأغلب المستشفيات الحكومية من أزمات إدارية وتقنية، نتج عنها تكليف لجنة لإدارته، على غرار مستشفيات أخرى كمستشفى صيدا الحكومي. ومنذ أشهر قليلة عقد لقاء تضامني في باحتها، للمطالبة بالدعم والمساعدة من أجل الاستمرار في تقديم الخدمات الإستشفائية، وتأمين الطبابة والإستشفاء لأهالي المنطقة.
وتعدّ مستشفى “الياس الهراوي الحكومي” المستشفى الوحيدة في منطقة البقاع الأوسط، التي تفتح أبوابها لاستقبال المرضى والمحتاجين. وتوضح مصادر المستشفى أنّ “غالبية من يقصدون المستشفى عاجزون عن التوجه إلى مستشفى آخر”. وحديثاً تقدمت إدارة المستشفى بلائحة التجهيزات التي تحتاجها لكي تتمكن من مواكبة حالة الطوارىء الصحية.
فأين النائب عبد الرحيم مراد ونجله الوزير السابق، من “كورونا” البقاع؟ وهما اللذان يصرفان مئات ملايين الليران شهرياً، دون كلل أو ملل، في التبرّع والمساعدات. واليوم مسألة تجهيز المستشفيات هي الأولوية التي يجب أن يفتحوا لها بيوت مالهم. والمقاول الكبير قاسم حمّود أين هو من حاجات مستشفيات منطقته؟
مستشفى شبعا نموذجاً للوقاحة
مستشفى “شبعا” نموذج وقح لما يمكن لفساد السياسة أن يفعله في القطاع الصحيّ. رغم مرور أشهر وأكثر على إنجاز مستشفى الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان في العرقوب، بين شبعا والهبارية، بتمويل من دولة الإمارات العربية المتحدة في إطار مشروع إعادة إعمار لبنان، إلاّ أنّ المستشفى المجهّز بأحدث التقنيات والتجهيزات الطبية المتطوّرة والتي تتفوّق على الكثير من مستشفيات المنطقة، ما زالت الرياح تصفر في جنباته، ولا حياة ولا إنقاذ للحياة فيه.
هذا المستشفى الذي بُني على قطعة أرض مساحتها أكثر من 12000 متر مربّع مقدمة من بلدية شبعا، يمكنه تقديم الخدمة الصحية لأكثر من 35 ألف مواطن من المنطقة ويؤمن الوظائف لأكثر من 250 شخصاً في مختلف المجالات، وهو يضمّ أربعين سريراً وأقساماً للجراحة العامة والقلب والتوليد وغسيل الكلى، والعناية الفائقة والطوارئ، والمختبر والطب العام والأطفال، والعلاج الفيزيائي وغيرها، ناهيك عن تجهيزه بقاعات ومولدات كهربائية وسيارات إسعاف ومبنى لقوى الأمن الداخلي. وهنا تكون مسؤولية آل الحريري، وتحديداً السيدة بهية التي كانت هي راعية أهل العرقوب منذ التحرير إلى اليوم. ولا ننسى المرشح إلى الانتخابات النيابية في 2018 عماد الخطيب الذي كان وعد بأنّه سيبذل كل جهد لافتتاحها في أقرب وقت ممكن.
كلّ المليارات التي صرفتها الدول العظمى لتطوير منظوماتها الدفاعية، العسكرية والأمنية والتجسّسية، سقطت دفعة واحدة أمام فيروس لا يتجاوز حجمه ذرة الغبار
ليس من باب التشّفي، لكن واحداً من أوجه فيروس “الكورونا” الكثيرة، هي “عدالة الانتشار”. بمعنى عدم تمييزه بين “ملياردير” و”شحّاد”، بين “فيلسوف” و”جاهل”، بين “بروفسور” وأمّي”. البشرية كلها باتت أشبه بكائنات صغيرة، ضعيفة، من دون أيّ حماية، مشرّعة على المرض بفعل الإصابة. تحوّلت الكرة الأرضية إلى مختبر خاضع لمزاجية وباء جشع لا يرحم، لا يشبع. احتلال شامل لكلّ الأجساد.
كلّ المليارات التي صرفتها الدول العظمى لتطوير منظوماتها الدفاعية، العسكرية والأمنية والتجسّسية، سقطت دفعة واحدة أمام فيروس لا يتجاوز حجمه ذرة الغبار. كلّ الأبحاث العلمية والصناعية وضعت على الرفّ بعدما تيبّن أنّه في لحظة ما، يمكن لثغرة بحجم فيروس قد تطيح بكلّ انجازات البشرية.
الفيديوهات المتداولة والتي توثّق صرخات كبار السن من إسبانيا وإيطاليا الذين يرون الموت أمام عيونهم بعدما اضطرت مستشفياتهم اعتماد سياسة المفاضلة لمصلحة من هم أصغر سناً، تذكّر بمشاهد هيوليودية لم نصدّق يوماً أنّها قد تصبح من يومياتنا المؤلمة.
الكارثة التي حلّت على البشرية لا تقدّر بخسائر مادية فقط. الخسائر الإنسانية قد تحتاج إلى سنوات طويلة لتجاوزها. لا بل ثمّة من يقول إنّ البشرية بعد كورونا غير ما قبلها، خصوصاً بعدما أثبتت الأنظمة الصحية والاستشفائية في الدول الصناعية الكبرى، قبل تلك التي تصنف من دول العالم الثالث، أنّها كرتونية… فماذا ينتظر هؤلاء ليتبرّعوا بفتات ملياراتهم من أجل إنقاذ أهلهم، وربما أحد أفراد عائلاتهم.