أثارت الاستهجان نسخة عن امتحان في مادة التاريخ لطلاب “مدرسة المهدي” في لبنان، تتمحور فيه الأسئلة حول قائد “فيلق القدس” السابق في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني جرى تداولها على فيسبوك، وهي ذكّرتنا بنسخة تظهر خضوع تلامذة إحدى المدارس المحسوبة على حركة “أمل” لامتحانٍ يتمحور حول رئيس مجلس النواب نبيه بري ودوره “الوطني”، ولا يغيب عنه السؤال عن هواياته.
لطالما أخبرني أصدقائي السوريين عن مدراس حزب “البعث”، وكيف كانوا مجبرين على تحيّة “الرئيس القائد” يوميًا، كما لو أنّهم في حالة عبادة لا تنتهي. عاينت الأمرعن قرب خلال فترة عملي في التعليم مع اللاجئين السوريين، عندما غنّت لي طفلة في عمر الثامنة: “حافظ أسد يا عيوني، لابس طقم ليموني، لما بينزل عالجبهة، بيقتل ألف صهيوني”.
إقرأ أيضاً: أبعد من تمثال.. لبنان مستعمرة إيرانية
كان الأطفال يظهرون نضجاً كاذباً، ما اختبروه وسمعوه في سنّ صغيرة. إذ تشكّل وعيهم في الحرب وسط القتل والدمار والموت، وكنت أتساءل كيف أنّهم “يفهمون” في السياسة وبعضهم يخاف منها، لكن سرعان ما تداركت الأمر، وقلت لهم: “خلّونا ننسى شو حافظين، رح نتعلّم قصص جديدة”. وسارت الأمور بيني وبينهم على نحوٍ ممتاز طيلة فترة المشروع.
كتبت نينار حسن في “الجمهورية” عن التعليم في سوريا، وشرحت كيف أن المدرسة في لاوعيها السوري ترتبط بساحة معركة. في لبنان، ليس الأمر في ذاكرتي أشبه بمعركة بل بعقاب، وكلّما صادفت أمرًا متعلقًا بالنظام التربوي أو مررت بمحاذاة مدرستي السابقة، أكرّر أنه لو عُرض علي العودة إلى المدرسة ولو لدقيقة واحدة، لرفضت. إذ ترتبط المدرسة في وعيي ولا وعيي بألم في معدتي، وشعور بالهلع. فيها شيء من أساليب البعث السوري، والفرق اليوم أن وسائل التواصل الاجتماعي سمحت أكثر بالكشف عمّا يحصل داخل صفوفها.
كنت في الحادية عشرة من عمري عندما أصبت بحالة نفسية رافقتني لستة أشهر، ولم أستطع أن أعرّفها إلا فيما بعد. جلّ ما عرفته حينذاك أنني كنتُ أعيش حالة دائمة من القلق تمنعني من التركيز وتمضية يومياتي بشكل طبيعي كطفلة. كان منسوب القلق يرتفع بالتزامن مع بعض الأحداث العادية، كرؤية صبي مقعد، أو عجوز مريض. تتسارع دقّات قلبي، وتحمرّ وجنتاي وأصاب بنوبة هلع تدفعني للركض إلى المنزل والاختباء في غرفتي. لم أكن أجيد سبل السيطرة على ما يصيبني ما يدفعني للجوء إلى القرآن، أقبّله مرات عدّة، أو أقرأ فيه قليلاً، ثمّ أجبر نفسي على النوم، وهناك كان كابوس يرافقني ويتكرّر بشكل يومي أرى فيه نفسي معلّقة في الهواء، ومن تحتي بركة نار كبيرة. وأن حبلاً عريضاً ملتفًا حول عنقي، يفلت أحياناً لأهوي تجاه البركة قبل أن يعود ويرفعني لتعود وتتكرر عملية السقوط والارتفاع بوتيرة متسارعة.
بدأ كل ذلك بعد أن قرّرت مدرّسة الرسم أن تلغي حصّة الرسم استثنائياً وتعرض لنا فيلماً تتمحور قصّته حول شابّ عصى ربّه وعانى “عذابات القبر” بعد الموت. ساعتان ونحن في الحادية عشرة من العمر نشاهد فتىً في قبره يختنق، بعد أن كان في البرّاد، تحلّق روحه بين أحبائه الذين يبكون، وهو يحاول التحدّث معهم دون أن يراه أحد، فينهار بكاءً. يضعونه في التابوت ويسيرون به إلى المقبرة، يتقدّمهم ملاك الموت الذي يضرب بجنازيره الحديدية ويصبّ غضبه عليه بلباسه الأسود، لأنّه فضّل لعب الورق على النهوض لأداء صلاة الفجر. وينتهي الأمر بالشاب في القبر وهو يختنق، ثمّ يتحول إلى كلب قبيح، ونختنق معه وتختنق في داخلنا براءة الأطفال وتتحول إلى رعب يومي ومشكلات نفسية.
جسّدت تلك المعلمة صورة الشبح في مخيّلتي. خصوصًا أنّها كانت ترتدي دائماً اللباس الأسود. تشبه ملاك الموت في الفيلم، علماً أنها بفرض الفيلم علينا تسعى إلى النجاة منه بعد موتها، بفرضها إيمانها المشوّه علينا. لكن لطالما رغبتُ بإخبارها أنّها وإيّاه متحدّان في لا وعيي، خصوصًا أن ترهيبها لم يقتصر على فيلم رعب أرادت من خلاله التأثير في الأطفال، إذ إنها أخبرتنا غير مرّة عن تحوّل فتاة إلى حيوان بعد تمزيقها القرآن أمام عيني أمّها المؤمنة. كنا أطفالاً وكانت تمعن في تخويفنا، سعياً منها لتسجيل حسنات على حساب صحّتنا النفسية، لكنّها لم تعرف أنّها أسهمت بزيادة جفائي مع الدين.
أرغب بإخبارها أيضاً أنني خضت وأخوض حرباً معها وعليها دون علمها، حرباً على ما تمثّله وعلى المنظومة التي تنتمي إليها، وأنني استردّيتُ بعضاً مما سلبتني إياه في طفولتي عندما جلست في المدرسة نفسها والصفّ نفسه خلال الانتخابات البلدية الأخيرة، حيث علّقت على بعض جدرانه شعارات دينية. عملتُ لمصلحة اللائحة المستقلّة التي نافست لائحة “الثنائي الشيعي” وما تمثّله. هي لائحة أختلف معها في بعض القضايا السياسية إلا أنّه ليس للبعد الديني أيّ مكان في نهجها ومسار عملها.
لم نخضع لأيّ امتحانات حول شخصيات سياسية أو دينية، لكنّ أساتذتنا لطالما عبّروا عن انتماءاتهم الحزبية مفترضين أننا جميعاً نلتقي معهم في النهج السياسي كوننا أبناء منطقة واحدة. أمّا فيما يختصّ بالشقّ الديني، فقد تراجعت وتيرة الترهيب مع الوقت لتتحوّل إلى محاولات إقناع بالطرق الدبلوماسية والكلام المحبّب. في مدرستي طُلب مرةً من الفتيات ارتداء الحجاب في حصة الدين، احتراماً للشيخ الذي يدرِّس المادة، فعبّرت عن رفضي دون إفساح أي مجال للتفاوض: “كيف بدك ياني كذّب ع الله وحطّ ع راسي احتراماً إلك”.
اعتُبرت وقحة حينها لأنّني رفضت مسايرة رجل دين حفاظاً على قناعاتي، لكنّ طالباً يكبرني في السنّ رفض مرّة الاستمرار في التمرينات لتقديم مسرحية عن المقاومة بعد أنّ رُفض طلبه باستخدام سلاح حقيقي على المسرح. اعتبره أحد الأساتذة “مبدئياً” وجريئاً وأُعجب به وبصرامته، علمًا أنني أستغرب في ذلك الوقت تجرّؤه على طلب أمر مماثل، ولو أنه كان منتميًا إلى حزب الله.
لو لم يُطرح على طلاب مدرسة المهدي أسئلة حول قاسم سليماني، لكانوا مضطرين للإجابة عن أسئلة تتمحور حول الجراد الذي نهش لبنان قبل قرن من الزمن
لم نتعلّم الحب في المدرسة وكانت قاسية عقوبة التعبير عنه أو عن الإعجاب بأحدهم. فهو كان يعتبر عيبًا وشذوذًا عن القاعدة، كيف لا ونحن نخضع لعملية ترهيب يومية ويجري العمل على غسل أدمغتنا وتحضيرنا لمواجهة معارك وجودية وأمور “أكبر مني ومنك عم تصير”. لا أذكر شيئاً من دروس التاريخ التي حفظناها غيبًا، كما أنّني لا أذكر من الأدب والشعر سوى قصيدة للشاعر خليل حاوي عنوانها “الجسر”.
لم تجذبني يوماً المواد العلمية وكنت أعاني للحفاظ على الحدّ الأدنى من الانتباه والتركيز أثناء شرحها. كنت أنتظر حصص مادتي الاجتماع والفلسفة لا غير. أشعر أحياناً أنّ ذهابي إلى المدرسة لم يكن ليصنع فارقًا، وإن وجب عليّ يوماً شكر من علّمني حرفاً كما يقول القول المأثور، لقدّمت شكري إلى شبكة الانترنت، والسينما والكتب والسفر. لماذا عليّ أن أشكر نظاماً تعليمياً يشبه أغنية الأسد الكاذبة؟
ليست خيارات أسئلة امتحان التاريخ في لبنان متشعبة. لو لم يُطرح على طلاب مدرسة المهدي أسئلة حول قاسم سليماني، لكانوا مضطرين للإجابة عن أسئلة تتمحور حول الجراد الذي نهش لبنان قبل قرن من الزمن، أو عن الدولة العثمانية، لأنّ الدولة اللبنانية ببساطة عاجزة عن تطوير كتاب تاريخ يحكي قصة لبنان الحديث، ويعلّم الأجيال عن سفاحي الحرب الأهلية الأقرب إلى هذا الجيل من نجم كتب التاريخ الذي لا يعطي شعبيته لأحد: جمال باشا السفاح.