في مقال نشره الديبلوماسي الألماني توماس باغر في فصلية واشنطن للدراسات المتعلقة بالعلاقات الدولية، The Washington quarterly، شتاء العام الماضي، ويتعلق بكيف كانت نظرة ألمانيا للعالم عند سقوط جدار برلين عام 1989 وكيف ننظر إلى هذه النظرة اليوم، نجده يقف أمام مفارقة مدهشة. وهي أنه بعد أحداث كان الجميع يتكلم أنها سوف تحصل يوما ما، وحتى انها ستحصل في السنوات المقبلة، لكن حين حصلت جرى ذلك بمسار مفاجئ لم يكن يتوقعه أحد بهذا الزخم وهذه السرعة. كمثل توحيد ألمانيا بشكل سريع وليس بمرحلة انتقالية تدوم لسنوات. وانهيار الاتحاد السوفياتي هو الآخر، دون المرور بفترة منازعة طويلة. المفارقة هنا، أنّ هذا الزلزال الجيوبوليتيكي والايديولوجي الذي ما كان احد ليتوقعه “هكذا”، تبعته مباشرة وفرة انتظارات تفاؤلية بحتمية ما بعده، وتدخل ضمن هذا اطروحة فرنسيس فوكوياما في أنّ “نهاية التاريخ” حصلت بالفعل، وما عاد هناك ما يمكن للبشرية الشخوص والتطلع إليه أعلى من كعب الديموقراطية الليبرالية واقتصاد السوق، أي أنّه النموذج نفسه، ليس على أمم الأرض غير الانكباب عليه لاعتماده والسلام. وهي اسقاطات لا بأس بالعودة إليها.
إقرأ أيضاً: أمام اللبنانيين مرحلة انتقالية انتفاضية طويلة (2/1)
بدعة “نهاية تاريخ” من هذا النوع انتشرت بين الناس بعد 17 تشرين. أنّ الطائفية مثلا ضمرت، وإلى زوال، وأنّ المواجهات الطائفية “لن تعاد”، وان اصنام النظام ستتساقط تباعاً، والاهم أنّ البلد ليس له غير تطبيق “نهاية التاريخ” الفوكويامية نفسها، أي الديموقراطية الليبرالية واقتصاد السوق، هذا مع أنّ الانتفاضة حدثت على خلفية أزمة اقتصادية ومالية هائلة، محورها سؤال: من يتوجب عليه دفع فاتورة الكارثة بالدرجة الأولى؟ من فوق إلى تحت أو من تحت إلى فوق؟ القلة الاوليغارشية أم الكثرة المتعددة الشعبية؟
والحال انه في حين يتلاءم مفهوم “الطبقة السياسية” مع فكرة المفاصلة السريعة والحاسمة بينها وبين “الشعب”، فإن اعتماد منظار الطبقات الاجتماعية وتناقض مصالحها يبدو في وقت واحد اكثر جذرية وأكثر واقعية. فهذا المنظار كفيل بالتمييز بين انتفاضة تراكمية، طويلة الأناة، مدركة أنّ البديل الثوري لم يكن يتهيّأ في السنوات الماضية ليولد من أحشاء القديم، وبين ثوروية انطباعية ومزاجية تبرز مشكلتها أكثر في لحظات الانقطاع بين لحظة جماهيرية وأخرى ضمن المسار الطويل والمركب للتغيير، الذي يتداخل فيه الانتقالي والتأسيسي.
إما أن يدفع الفقراء أوّلاً فاتورة الأغنياء، وإما أن يدفع الأغنياء أوّلاً
في مقالة توماس باغر المشار إليها، يشدّد هذا الديبلوماسي الألماني على أنه من الأفضل دائما عدم توقع مستقبل أفضل، وعدم إنكار إمكان المستقبل الأفضل في نفس الوقت. وما يصح على “الماكرو” العالمي، يصح أيضاً على نطاقنا، في هذا البلد الصغير، لا سيما أنه في بلد حيث تعطلت قنوات التفاوض الاجتماعي منذ وقت طويل، وتآكلت النقابات العمالية، وعمت ثقافة “مدنوية” فيها الكثير من الجوانب الديموقراطية الجيدة، لكن أيضاً نجد الكثير من التسطيحات الأيديولوجية التي تنظر إلى علاقة الناشط بالواقع كما لو أنّها علاقة قائمة على السحر. الواقع للأسف، أو لحسن الحظ، أقل مسحورية مما نعتقد، وهو في الوقت نفسه واقع “حاد”: إما أن يدفع الفقراء أوّلاً فاتورة الأغنياء، وإما أن يدفع الأغنياء أوّلاً. وهذه الحدّية بعيداً من أن تعني إمكانية حسم الأوضاع في فترة وجيزة، فهي تعني على العكس تماماً، أنها المرحلة الانتقالية من جمهورية ثانية أو ليغارشية ومنقسمة بين المحاور، إلى جمهورية ثالثة اجتماعية ولامركزية لكن موّحدة وطنياً بشكل فعلي، ومتوازنة في شروط استقلاليتها وسيادتها. وهي مرحلة تستدعي مبادرات عديدة ومتشابكة، لكن أيضاً متناقضة ومتزاحمة، ومبادرات متصالحة مع النفس الطويل.