أمام اللبنانيين مرحلة انتقالية انتفاضية طويلة (2/1)

مدة القراءة 5 د


مهما استجمعنا من توقعات التأزم ثمّ الانفجار الاجتماعي في السنوات السابقة على المسار الانتفاضي الذي دشنته القومة الشعبية ليل 17 تشرين الأول الماضي، إلا أنّه انفجارًا بهذه الحدّة، وبهذه القدرة على المثابرة والتوسع في الأيام والاسابيع التي تلت، وعلى إحداث هبة جماهيرية لامركزية عابرة – ولو بتفاوت ازداد وضوحًا مع الوقت وجامعة – بين المناطق.

ولعل الاعتراف اليوم بهذا المعطى، الحيوي المفاجئ والمدهش وغير المتوقع، يسعف ويلهم النظر بشكل أكثر واقعية وفاعلية في آن، سواء بالنسبة إلى فهم مسار الأشهر التي انقضت منذ انطلاقة الانتفاضة، أي منذ لحظة القطيعة التي لا رجعة عنها – دون ان تكون محققة من تلقائها، وهذا بيت القصيد – مع نظام الجمهورية الثانية. هذا النظام الذي أصبح” مومياقراطياً” بامتياز، أو بالنسبة إلى استشراف أفضل لمحددات الفترة المقبلة، المفتوحة على مجموعة من الإحتمالات والخيارات.. لكن أيضاً على مجموعة وافرة من اللاخيارات. فالواقع ليس ما تختاره، إنما أنت تختار من ضمن لعبة الواقع. 

إقرأ أيضاً: تشيلي ولبنان: انتفاضة “واحدة” في بلدين

لم تغب عن بال أحد، في أي يوم، فكرة أنّ نظام الجمهورية الثانية لا يمكنه أن يسترسل في تناقضاته السياسية والاقتصادية وفي استهتاره بمقومات العقد الاجتماعي وشروط الاستقلال المتوازن حيال المعادلات المتسيدة في عالم اليوم، وتلك المشطرة للشرق الأوسط بين “المحاور”. مع هذا، لم يكن أحد ليتصور أنّ البلد الذي حين احتشدت جماهيره في الساحات عام 2005، إنقسمت بين بعضها البعض مطولا، وحين سلك المدى الجماهيري درباً تطهّرية من ثنائية 8 و14 آذار إثر أزمة النفايات، مع حراك صيف 2015 الريادي، عاد وطوّق الحراك نفسه بنفسه. من كان ليتصوّر، مشهدياً حتّى، حصول هذه الهبة الجماهيرية المتواصلة في بلد كان خارج مساحة ثورات 2011 العربية، بلد لا يمكن في كل الأحوال مماثلة ما يكابده مماثلة شاملة مع إشكالية نظم الاستبداد المخابراتي المطبق في البلدان العربية الثائرة. فقد تمكّن نظامه العشوائي، والممنهج في آن، من المخاتلة والتبرير على قاعدة “أنا لست بنظام لتسقطوني أو تبدلوني”؟

زد على الانتخابات التشريعية في لبنان لم تكن في أحلك الظروف التي أجريت فيها، خلال سنوات الوصاية السورية، انتخابات مزورة بالكامل ومعدومة البعد التمثيلي. وانتخابات 2018 بالتحديد، الحاصلة من بعد تأخير وتسويف يعبران بالفعل عن مدى تخبط وتآكل “السستام”، كانت انتخابات تنافسية بمستوى تمثيلي أعلى من سابقاتها، واتسمت في الوقت نفسه بمحدودية الخرق “المدني” فيها. هذا إن سلمنا جدلا بأنّ خرقاً كهذا حصل من أساسه غداتها. هل كان بالمستطاع تخيل مثل هذه القومة الجماهيرية على أصل هذا السستام وفصله، وعلى نتائج انتخابات 2018 بشكل مركز، بعد ذلك بعام وأقلّ من نصف العام؟

البنى الاجتماعية، الهياكل المؤسسية، القنوات التحريكية والتعبوية، لا تنتهي أو تُدشن بين ليلة وضحاها. الذهنيات لا تنقلب على نفسها فجأة

تستدعي الاستعادة السريعة لمعنى 17 تشرين اليوم، في ظروف أكثر احتقاناً اقتصادياً وسياسياً، إعادة الاعتبار للمفاجئ في 17 تشرين، بالتوازي مع ابعاد هذا المفاجئ، الذي سيبقى مدعاة للاندهاش حين ننظر إليه، عن كل الاسترسال الانطباعي في توهم أنّ لحظة انطلاقة زمن القطيعة مع نظام الجمهورية الثانية تعني تحقق هذه القطيعة. فهذا التوهم يبيّت فكرة أنّ البديل “الثوري” عن هذه الجمهورية، المعادية للطبقات الشعبية والمستهترة بالعقد الاجتماعي وبالسيادة الوطنية بشكل صميم، كانت تختزنه هذه الجمهورية في أحشائها، وهذا غير صحيح البتة. الاندهاش دائمٌ كلما استعدنا 17 تشرين، إنما من دون الوقوع في أسر الوهم بأننا “ولدنا من جديد” في ذلك اليوم، أو أن كل ما قمنا به قبلها اما كان شراً كله بما يستوجب الاستتابة والتندم، أو كان خيراً كله بما يستوجب تقريظ الذات المتورمة على تثويرها الفجائي للبلد بعد طول انتظار.

البنى الاجتماعية، الهياكل المؤسسية، القنوات التحريكية والتعبوية، لا تنتهي أو تُدشن بين ليلة وضحاها. الذهنيات لا تنقلب على نفسها فجأة. القطيعة لها زمان ومكان، ولها حدودها في الزمان والمكان، والأهم: هذه القطيعة لا تسير على هوى أحد. إذا كانت الأيام الأولى بعد تدشين زمن القطيعة مع لبنان ما قبل 17 تشرين هي أيام لا غرو فيها في الاسترسال في المبالغة بالاختلاف الحاصل بين زمنين كما لو أن المكان كله زحل من موضع الى آخر، وتبدّل مقام الوجود نفسه، إلا أنّ الشهور المتراكمة، والحاجة لاعادة اكتشاف حاجة الفعل الثوري لكل من “فضيلتي” التباطؤ والتسارع، تارة هذا وتارة ذاك، هي شهور تدعونا لفهم أكثر تقبلاً حول أنّ المرحلة الانتقالية غير محددة بحتمية واحدة، ستطول لسنوات، وليست ميكانيكية أبداً ولا إرادوية النقلة من جمهورية معادية للطبقات الشعبية، إلى جمهورية منحازة لهذه الطبقات، ومن جمهورية تخريبية للعقد الاجتماعي والرابطة الوطنية، إلى إعادة تأسيس الوطن اللبناني على أسس جديدة تعيد توحيد مفهوم السيادة، بدل انشطاره بين سيادية محابية للامبريالية معادية للممانعة، وبين سيادية نافية لذاتها في منظومة الممانعة لأجل محاربة الامبريالية. 

مواضيع ذات صلة

الرياض: حدثان اثنان لحلّ لبنانيّ جذريّ

في الأيّام القليلة الماضية، كانت مدينة الرياض مسرحاً لبحث جدّي وعميق وجذري لحلّ أزمات لبنان الأكثر جوهرية، من دون علمه، ولا علم الباحثين. قسمٌ منه…

الحزب بعد الحرب: قليل من “العسكرة” وكثير من السياسة

هل انتهى الحزب؟ وإذا كان هذا صحيحاً، فما هو شكل اليوم التالي؟ وما هي الآثار السياسية المباشرة لهذه المقولة، وكذلك على المدى المنظور؟ وما هو…

أكراد الإقليم أمام مصيدة “المحبّة” الإسرائيليّة! (2/2)

عادي أن تكون الأذهان مشوّشة خارج تركيا أيضاً بسبب ما يقوم به دولت بهشلي زعيم حزب الحركة القومية وحليف رجب طيب إردوغان السياسي، وهو يدعو…

الاستكبار النّخبويّ من أسباب سقوط الدّيمقراطيّين

“يعيش المثقّف على مقهى ريش… محفلط مزفلط كثير الكلام عديم الممارسة عدوّ الزحام… بكم كلمة فاضية وكم اصطلاح يفبرك حلول المشاكل أوام… يعيش أهل بلدي…