أعادت جريمة قتل الرتيب المتقاعد في قوى الأمن الداخلي أنطوان يوسف الحايك داخل محلّه في بلدته المية ومية تسليط الضوء على قضية اللبنانيين الذين تعاملوا مع “جيش لبنان الجنوبي” التابع للعميل الإسرائيلي أنطوان لحد، بعدما كان مفترضاً أنّها قد وجدت حلاً من خلال القضاء العسكري قانوناً، وحزبياً بهدف طيّ الصفحة وتثبيت التعايش بين أبناء الجنوب من خلال “تفاهم مار مخايل” الذي وقّعه باحتفالية في 6 شباط 2006 الجنرال ميشال عون والسيد حسن نصرالله.
تكمن خطورة جريمة قتل الحايك في أنّ جهة ما أباحت لنفسها إعادة النظر في أحكام القضاء العسكري وتنفيذ حكمها الخاص، بعشر رصاصات من مسدسين كاتمين للصوت، ودم بارد ومن غير أيّ خشية من احتمال انكشافها وملاحقتها، في منطقة تعجّ بوجود العناصر الأمنية وأدوات المراقبة، خصوصاً في زمن وباء الكورونا والمراقبة الشديدة لمنع التجوّل.
إقرأ أيضاً: حزب الله في ملفّ الفاخوري: باسيل أوّلاً
كما أنّ قتله تقرّر على ما يبدو “فشة خلق” لجمهور استاء لإطلاق عامر فاخوري، وقد شكر الرئيس الأميركي دونالد ترامب الحكومة اللبنانية على تعاونها للإفراج عنه بعد سجنه نحو ستة أشهر بتهم العمالة لإسرائيل والقتل والتعذيب في سجن الخيام.
لكنّ الأخطر هو هزّ الثقة في النفوس بأنّ صفحة الحرب الداخلية قد طُويت بعد ثلاثين عاماً من انتهائها، وعشرين عاماً على عودة المناطق الجنوبية الحدودية إلى لبنان، وإن بقيت التباينات في رواية مسبّباتها والتفاصيل.
والحال أنّ الميليشيا الحدودية التي تشكّلت بناءً على أمر من قيادة الجيش اللبناني خلال “حرب السنتين” كما بات معروفاً، تحوّلت تدريجاً إلى ميليشيا شديدة اللصق بإسرائيل، ولم تكن ذات غالبية مسيحية، وعند انسحاب الجيش الإسرائيلي عام 2000 جرى التعامل مع عناصرها على أنّهم قسمان، شيعي اعتبر “حزب الله” معظمه من فئة “العملاء المزدوجين” الذين كانوا يؤدّون خدمات سرية لـ”المقاومة”، وصدرت لاحقاً أحكام تخفيفية في حقهم، وقسم مسيحي كانت عقوباته أكبر، لتثبت فكرة أنّ المسيحيين عملاء.
ليس المجال متاحاً لدرس قضية الحايك بالتفصيل. كان شاباً عندما انتقل قسراً منتصف الثمانينيات في عزّ الحرب من بلدته ومنطقته شرق صيدا إلى المنطقة الحدودية، وكان شرطياً لسنوات في سجن الخيام المسؤول عنه عامر الفاخوري، ورمى مرة قنبلة دخانية سامة أدت إلى وفاة اثنين من الأسرى، ابرهيم أبو عزة وبلال السلمان، على ما يؤكّد الذين ادّعوا عليه، إلاّ أنّ القضاء العسكري عام 2003 أطلقه مستفيداً من العفو العام ومرور أكثر من عشر سنوات على الجرم.
وكان بعد خروجه من المنطقة الحدودية عام 1992 التحق بقوى الأمن الداخلي، وقُتل مُتقاعداً بعشر رصاصات في محلّه. والأرجح لأن المحكمة العسكرية أتت في قرارها لإطلاق المواطن الأميركي، رئيسه السابق الفاخوري، على ذكر أسباب إطلاق الحايك في سياق عرض أسانيدها والسوابق. وكانت قواعد “حزب الله” وبيئته وجماعات “السرايا” الملتحقة به في حال غضب وتململ، لانكسار قرار الحزب، ونجاح إدارة ترامب في حمل السلطات اللبنانية على إطلاق الفاخوري وخروجه في مروحية أقلّته على سرير مرضه بالسرطان من السفارة في عوكر إلى قبرص في طريق عودته إلى الولايات المتحدة.
لم يسأل أحد عن الحايك، اللبناني الفقير، خلافاً للفاخوري القوي بجنسية الولايات المتحدة التي هدّدت، عبر القناة الديبلوماسية، القضاة والضباط الذين كانت لهم علاقة من قريب أو بعيد بقضيته
ولكم بدا الأمين العام للحزب السيّد حسن نصرالله مربكاً على الأثر، وغير مُقنع في تبرير موقف الحزب من هذه القضية التي انتهت، على ما يبدو، إلى تقديم رجل لا ظهر له سياسياً ولا سند، كبش فداء، على حساب القضاء والقانون.
لم يسأل أحد عن الحايك، اللبناني الفقير، خلافاً للفاخوري القوي بجنسية الولايات المتحدة التي هدّدت، عبر القناة الديبلوماسية، القضاة والضباط الذين كانت لهم علاقة من قريب أو بعيد بقضيته، مما حمل أحدهم من كبار القضاة، على طلب إعفائه من مهماته، كاشفاً لقريبين منه أنّه مضطر إلى زيارة الولايات المتحدة من حين إلى آخر، وأنّ التهديد بوضع اسمه مع أسماء زملاء له على لائحة عقوبات منتهكي حقوق الإنسان الأميركية، هو أمر جدّي جداً، وكفيلٌ بمنعهم من السفر إلى معظم الدول، وليس الولايات المتحدة وحدها، وأيضاً من فتح حساب مالي في لبنان أو خارجه. والشيء بالشيء يُذكر.
القوميون السوريون المخضرمون يذكرون “أبو أحمد”. وهو معاون في قوى الأمن الداخلي كلّفه رؤساؤه بالتشدّد في التعامل مع السجناء في “ثكنة المير بشير”، عقب محاولة الانقلاب الفاشلة على الرئيس فؤاد شهاب، ليلة رأس سنة 1961-1962. وكان يضربهم ويُهينهم فحقدوا عليه، ووحده سيدفع الثمن لاحقاً. بعد انتخاب الرئيس سليمان فرنجية عام 1970 أطلق عليه مسلّح رصاصات عدّة في محلّة المسلخ ببيروت وأرداه.
أما ضباط “الشعبة الثانية” الذين أمروا وأشرفوا على أعمال القمع والتنكيل بالقوميين في تلك الحقبة، أمثال أنطون سعد، وسامي الخطيب، وغابي لحود وسواهم… فعاشوا حياة طبيعية ولم يخشوا يوماً الانتقام الجسدي منهم.
للمصادفة، “أبو أحمد” كان اسمه أنطوان، من عائلة عازوري، ومن بلدة جنوبية أيضاً. وكان قتله انتقاماً بائساً ومتأخراً لحزب عُرف عنه قتل الرؤساء.