مهما حاول العونيون تجميل الصورة، فهم يعجزون عن تجاوز الواقع المرير: “التيار الوطني الحر” مأزوم. قد يخفّف بعضهم عن نفسه بالإشارة إلى أنّ الحوادث التي تعرّض لها النائب زياد أسود ليست عفوية الطابع وإنّما مدفوعة لاستثمار سياسي، ساعدت بالنتيجة في شدّ عصب “التيار”.
لكن في الخلاصة وقع “التيار” في المحظور. كل ظواهر المواجهات التي يتعرّض لها تؤكد أنّ الحزب يفتقد إلى مطبخ تنظيمي يعمل على وضع خارطة طريق لمواجهة المرحلة، أو أقله توجيه مسؤوليه وكوادره. ولذا تُرِكَت ردّاتُ الفعل على سجيّتها لتكون عشوائية وغير مدروسة، كما يقول أحد المسؤولين العونيين.
الخطيئة الكبرى بنظره هي عجز “التيار” عن لعب دور “الإسفنجة” مع الحراك الشعبي والعمل على استيعابه، ما وضعه في مواجهة مع هذه المجموعات بسبب ردّات الفعل العنيفة، بينما كان من الممكن التماهي مع شعارات الحراك والعمل، في المقابل، على تعرية الخصوم المسيحيين، أي “الكتائب” و”القوات”.
إقرأ أيضاً: “التيار” أمام مصرف لبنان… وديع عقل “ستايل”
ويؤكد المسؤول العوني أنّ القيادة تعي عمق الأزمة التي تعاني منها، لكنّها مقتنعة أنّ الشق السياسي للأسباب الموجبة يتفوق على ما عداه، فهي متأكدة أنّ “التيار” يدفع ثمن خياراته الاستراتيجية وتحديداً تحالفه مع “حزب الله”، لكن في المقابل لا يمكن التقليل من سوء إدارة القيادة التي لم تترك لها حليفاً داخلياً واقفاً إلى جانبها، بينما دفاع “حزب الله” عن “التيار” في هذه اللحظة سيرفع من منسوب النقمة الدولية عليه.
ويشير ختاماً إلى أنّ جبران باسيل بات مقتنعاً أنّ الحاجة إلى مراجعة سلوكه وأدائه وأنّه شرع فيها عبر انكفائه النسبي عن المنابر والميكروفاونات. ويبقى عليه أن يضع تجربة حزبه على المشرحة ليبدأ مراجعة شاملة وعميقة وجذرية لينقذ ما أمكن إنقاذه.
على سبيل المثال، من يعرف النائب زياد أسود جيداً، يدرك أنّ مشاهد “الأكشن” التي سجّلها خلال الأسبوع الماضي، ليست غريبة عن سلوكه. اختار النائب العوني لنفسه ومنذ دخوله البرلمان، “موديل الشغب”. الشغب التنظيمي، السياسي، ولا مانع من الطائفي إذا اقتضت الحاجة. المهم تلبية نداء العصب المسيحي، وهو الذي يعتقد أنّ أسلوب “خالف تعرف” هو الأفضل والأنجح لجذب الانتباه “الجزينيّ”.
لم يكن أسود نموذجاً معمّماً في “التيار الوطني الحر”. في كثير من صفاته “الاستفزازية” لم يكن ليشبه غيره من النواب العونيين أو “رفاق” الدرب الطويل. يفضّل في كثير من الأحيان السباحة عكس السائد. لكنّ هذا الوجه لا يحجب أبداً الجانب النضالي في تاريخه، وهو العتيق بين رفاقه… وإن حتّى تلاقى الحلفاء والخصوم في النفور من شخصيته، إلّا أنّ أيّاً منهم لا يستطيع “رميه” بتهمة فساد قد تكون طالته في حياته.
هكذا بدأت المساكنة مع طبقة حكمت طوال عقود وتقاذفت كلّ أنواع الاتهامات وكرات المسؤوليات إلى أن انتهى بها المطاف مدانة بكل أطيافها
لكن حين يقرّر السير عكس المزاج العام للبنانيين، فتلك سقطة لا تٌعوّض. لا يدفع زياد أسود وحده ثمن هذه السقطة. كلّ “التيار” يتشارك معه في تكبّد الثمن، كما كلّ الطبقة السياسية التي تعرّضت لضربة قاضية منذ وقوع زلزال 17 تشرين الأول. سواء أقرّت تلك الطبقة، أو أنكرت. والأرجح أنّها لا تزال في حالة نكران للواقع وتحاول ترقيع التشققات التي أصابتها نتيجة التسونامي الشعبي الذي ملأ الساحات والشوارع في الأسبوعين الأولين للانتفاضة. فهي تواجه تحدّياً وجودياً قد يكون الأخطر منذ قيام جمهورية الطائف.
“التيار الوطني الحر” الذي هو بمثابة الحزب الحاكم بأمر رئاسة الجمهورية، يحاول تحييد نفسه عن بقعة النار الملتهبة التي تقضم شيئاً فشيئاً من مكتسبات الطبقة السياسية. يركّز العونيون مجهودهم في سبيل إخراج تجربتهم السلطوية من دائرة الشبهات التي رسمها الحراك الشعبي على قاعدة “كلّن يعني كلّن”، ولكن من دون جدوى.
أن يقفز “التيار الوطني الحر”، الذي خاض محطّات عديدة من المواجهات السياسية والنضالات ضدّ النظام السوري أولاً وتركيبة “إتّفاق الطائف” ثانياً، من موقع الهجوم إلى موقع الدفاع عن نفسه، فتلك مفارقة استثنائية في تاريخ “التيار” ومسيرته، بل هي أشبه بمفترق طريق.
تحوّل المسار انحدارياً، على عكس ما كان مأمولاً منه، مع دخول العماد ميشال عون قصر بعبدا. رفع العونيون شعار “التغيير”، وإذ بالتغيير يصيب سلوكهم. صار من الصعوبة التمييز بين أيّ من مكونات السلطة خلال العهد العوني، بتركيبتها النيابية والوزارية. وقع “التيار الوطني الحر” في فخّ السلطة التي اختصرت كل أهداف التنظيم “الهلامي”.
أن يصل العماد إلى الرئاسة أو لا يصل، تلك كانت المعادلة. لكنّ الوصول كلّف أثماناً باهظة، والأرجح أن الرئاسة أقنعت الوريث الشرعي للجنرال، أي رئيس “التيار” جبران باسيل، أنّ خلافته العماد عون على كرسي بعبدا تفترض إسقاط معادلة العام 2016 على حالته. هكذا، نقل حزبه من تيار ثائر على السلطة وناقم عليها، إلى “شريك مضارب” يسعى لتجيير كل نفوذ الرئاسة الأولى لمصلحة نسج تفاهمات بعيدة الأمد تسمح له بخلافة العماد عون في القصر.
هكذا بدأت المساكنة مع طبقة حكمت طوال عقود وتقاذفت كلّ أنواع الاتهامات وكرات المسؤوليات إلى أن انتهى بها المطاف مدانة بكل أطيافها، في “محاكم عرفية” رفعت في الشارع ولم تميّز بين مرتكب وشاهد. ومن لم يُدَن بالورقة والقلم، ضمّه الحراك إلى اللائحة السوداء بتهمة التواطؤ في مشاركة الفاسدين.
ستكون أشبه بمهمة مستحيلة إقناع الرأي العام أنّ قيادة “التيار الوطني” لم تلوّث يديها بلوثة الفساد. وإن لم تواجه إدانة بالوثائق والمستندات، إلاّ أنّ أطرافاً أساسية تتحدث عن ارتكابات موثقة موجودة في جواريرها تدين بعض الطاقم العوني، لكن يكفي أنّها شرّعت مزاريب الهدر والفساد وجلست على طاولات المحاصصة لتشهد على انهيار البلد نقدياً.