رزان يحيى
من حاضر متسخ ممزوج بمجتمع طائفي اقتصادي متردّ، ولدت ثورة في مدينة لم تعرف من التحركات المطلبية إلا الخجولة منها لفترة طويلة من الزمن. ثورة متمرّدة على الواقع وواعدة بغد أفضل. إنها انتفاضة عاليه. هي صرخة موحدة أطلقت تزامناً مع صرخة 17 تشرين اللبنانية.
في أولى الأيام، بدأت التجمعات على دوار عاليه – خط الشام.. قُطعت الطريق الدولية، فتشكلت نسخة “جبلية” لساحات الوطن الثائرة. مخاض لم يأخذ من الوقت الكثير: تقلّصات متسارعة، ورغبة ملحة بالخروج، فولادة الساحة.
بدأت التحركات بالنمو. كانوا شباناً وشابات، ونساء ورجالاً وأطفالاً. من هنا، نضج مزيجٌ لم تشهده عاليه من قبل، شمل من أبنائها والجوار تنوّع أفراد لم تعرفهم الساحات سابقاً. فمنهم من خرج من جلباب الزعامات، ومنهم من لم يجد مساحة تشبهه سابقاً في عاليه، ومنهم من خاض التحدي وحيداً في السابق.
هذه التركيبة أشعلت شعار “عاليه تنتفض”. غاب الكثيرون ممن فضّلوا أن يأخذوا من ساحتي الشهداء ورياض الصلح مكاناً لصرختهم، بعيداً عن الأعين المسلّطة، ولاعتبارات تبدّدت معظمها بعد فترة، وتُناقش في السياق.
تكرّس العلم الأوحد: العلم اللبناني. كان ذلك تحدّياً كبيراً. أما التحدّي الأكبر فارتبط بشعار “كلن يعني كلن”. ومع ذلك، ظنّ البعض أن لا قوة فوق قوة الأمر الواقع، إلى أن بدأت المضايقات: إزالة يافطة من هنا وتعدٍّ على المنتفضين من هناك.
لكنّ الهوية ثبتت. فالمعركة اليوم واضحة. هي طبقية بامتياز، ورافضة للكل بما يمثّله من أحزاب السلطة وزعمائها. إنه رهان اللامركزية في عاليه. البداية كانت مع عشرات المشاركين، ثم المئات حتى تحوّلوا إلى آلاف.. وكسبت عاليه الرهان.
روتين يومي نافر. لم يتميّز بأعداده الصباحية، بل بالخصائص التي أعطت “الساحة” صدارتها في ثورة الوعي. في يوم الإضراب العادي، بدأ قطع الطرقات على الحياة اليومية “غير العملية”، بدعم من المارّة ومن الأهالي، ورفض ممن فهم أن “الطريق مقطوع لصيانة الوطن” ما هو إلا تعبيير عن أنّ إيام الانصياع قد ولّت. حاولوا أن يمنعوا فلم ينجحوا.. هوّلوا فزادت العزيمة إصراراً حتى سقطت حكومة الحريري.
عاد الطريق المقطوع على خط الشام.. حينها ارتقى علاء أبو فخر شهيداً عند تقاطع خلدة. وكأنّ الانتفاضة تحتاج إلى دفع أكثر لتستمر
يبدأ النهار مع ساعات الفجر الأولى عند مداخل عاليه، وينتهي مع انتهاء يوم العمل.. تتساعد مجموعات لضمان سير العمل بأبهى حلله. عند المفرق الأول، تستبدل مدرسة الثورة يوم الأطفال المدرسي بأعمال حرفية أبرزها إعادة التدوير، وحملات تنظيف تمتد لتشمل مختلف الفئات العمرية، بالإضافة إلى ألعاب تفاعلية هادفة حول الوطن والتعاون والمواطنية، ومساحة عامة للقاء أصدقاء الثورة الجدد.
على المفرق الآخر، هناك اليوغا الصباحية. تمارين شبه يومية لتلطيف جو “القطعة”. أما جلسات النقاش اليومية “بنص طريق خط الشام” فبلورت وجه الانتفاضة وأعطتها ضماناً لاستمراريتها.
بعفوية الثورة وإصرارها، بقيت الطرقات مقطوعة حتى سقطت الحكومة… لكن الساحة بقيت. انتقلت بجغرافيتها إلى الجهة المقابلة حيث تمثال شكيب جابر على خط الشام. تكرست الساحة التي لا تعرف الهدوء.. تحركات صباحية ولقاءات مسائية مع صحافيين وناشطين وأكاديميين ورجال قانون وفنانين.
تجدّدت الثورة بجغرافية مرنة وبعفوية أولى أيام الإنتفاضة مع يوم الحوار الشهير للرئيس: “يلي مش عاجبو يهاجر”. عاد الطريق المقطوع على خط الشام.. حينها ارتقى علاء أبو فخر شهيداً عند تقاطع خلدة. وكأنّ الانتفاضة تحتاج إلى دفع أكثر لتستمر.
تحت مطر كوانين، وضجيج السير الصارخ على خط دوليّ، ظلّ المنتفضون متمسكين بساحتهم. تنوّعت الحوارات في القانون والاقتصاد والتربية والفنّ. الساحة ثابتة. باتت الخيمة استمراراً لانتفاضة عاليه. خلقت الساحة مساحة تنظيمية للمنتفضين جعلت لذوي الاختصاص رقعتهم، فتكوّنت لجان من بينها الطلاب والأساتذة، والإعلام والإعلان، المالية والنشاطات، واللوجستيات والتنسيق.
عروسة المصايف تركت جزءاً من أبنائها غرباء عنها، وجاء 17 تشرين ليعيد الحب إلى قلوبهم. وقد تكون “عاليه سمحتيلي حبك من جديد” من أكثر اليافطات التي رفعت صدقاً.
أبرز ضيوف خيمة عاليه:
غسان ديبة. نزار صاغية. الصحافية رشا أبو زكي. الصحافيان رياض قبيسي وجاد غصن. سامر غمرون. كلٌّ من الفنانين خالد الهبر، فؤاد يمين، بديع أبو شقرا، وعبدو شاهين. زهير برو. واصف الحركة. فرقة “دقة قديمة” من طلاب المعهد العالي للموسيقى. رانيا مرعي. المعالجة النفسية حنان نوفل.
أهمّ النشاطات:
التحركات عند المصارف، وشركة الكهرباء، ومصرف لبنان في عاليه، وأوجيرو ومكاتب الخليوي ALFA وMTC، ومسيرات إلى السراي، ومسير “لتساهم بالحل سكر المحل”، وتسكير المدارس، والتحركات الطلابية، وتوزيع منشورات، ودعوات مطلبية، وتحية إلى شهيديّ الثورة علاء أبو فخر وحسين العطار.