تشيلي ولبنان: انتفاضة “واحدة” في بلدين

2020-02-19

تشيلي ولبنان: انتفاضة “واحدة” في بلدين


انطلقت انتفاضتا تشيلي ولبنان الشعبيتان في وقت متقارب. وفي موازاة التباعد الجغرافي بين لبنان الواقع شرق البحر المتوسط وبين تشيلي التي ينحسر عرضها وتمتد طولاً بين جبال الأنديز والمحيط الهادئ في أقصى جنوب أميركا اللاتينية، السخط من زيادة التعرفة على تذكرة مترو سنتياغو كانت الشرارة في الأولى، والغضب المحتبس من سنين فجّره في الحالة الثانية أخذ الحكومة باقتراح سنّ الضريبة على الوتساب. 

اللامركزية واللاهرمية، والاستمرارية بتقطع، وموجات الصعود والهبوط، قرّبت المشهد الانتفاضي في البلدين البعيدين. التنديد الواسع بـ”الصهرين” أيضا، وبخاصة في بداية القومتين، سواء في لبنان أو في تشيلي. مع فارق أنه صهر لـ”العهد” الرئاسي الحالي في حال لبنان، والمرشح الأوفر حظاً لولاية العهد إذا ما كتب للمجلس النيابي الحالي انتخاب الرئيس المقبل، بالأكثرية البرلمانية القائمة فيه، التي يذكرنا تكليف وتأليف ومنح الثقة لحسان دياب وحكومته بأنها قائمة بالفعل، حتى لو بدت أكثرية برلمانية “نائمة” في نفس الوقت، لا بل إنها أكثرية لها ما يواطؤها في الأقلية. 

أما في التشيلي، فالصهر هو خوليو پونسيه ليرو، صهر الديكتاتور العسكري الراحل أوغستو پينوشيه، وأحد عتاة رموز “رأسمالية المحاسيب” (الكرونو كاپيتاليزم) حيث يسخّر القطاع العام لخدمة مآرب أرباب .القطاع الخاص. ليرو هو صهر سابق لعهد سابق في تشيلي، لكنه عهد لم يمض تماماً.

تحكمت النيوليبرالية كعقيدة بالذين أشرفوا على السياسات المالية والاقتصادية بعد الحرب

تضخم ليرو مالياً بفعل مصاهرته لأسرة پينوشيه، وكنتيجة لمسار التحديث الاقتصادي الذي رعته العسكريتاريا المحافظة في تشيلي، والقائم على اعتماد وصفات النيوليبرالية المتطرفة، وحصر مجال الدولة الأساسي في الدفاع والأمن وبث القيم المحافظة اجتماعياً في مقابل خصخصة مؤسسات القطاع العام، ثم خصخصة كل شيء، من المناجم إلى الغابات إلى المياه الحلوة والمالحة سواء بسواء.

طبقت النيوليبرالية في تشيلي قبل أي بلد آخر، وسوّغ منظروها للتبشير بها في حواضر النظام الرأسمالي العالمي (الغرب) على قاعدة أنها نجحت في أحد أطرافه، وثمة من أخذته النشوة لاعتبار التحديث الاقتصادي النيوليبرالي تحت حراسة العسكريتاريا، وبالشروط المعادية للطبقات الشعبية، أمنت القاعدة الموضوعية للتحول في الاتجاه الديموقراطي لاحقاً، أي إنها ديكتاتورية تمهد لتجاوز نفسها في الجيل الثاني. 

وبالفعل، قطعت تشيلي شوطاً كبيراً في التفلت من المرحلة العسكريتارية الفظيعة، كما سجلت نمواً اقتصادياً مرتفعاً بشكل متواصل، إنما يترافق مع تزايد التفاوت الاجتماعي بين الطبقات، أي بشكل أساسي بين الأوليغارشية “الخاصة” المستبيحة لـ”العام” والمصادرة لأي مشاع ممكن في الطبيعة، وبين الطبقات الشعبية، وينعكس هذا التفاوت في الاحتفاظ بالهيكل الأساسي للدستور الموروث من فترة پينوشيه، رغم تتالي تعديلاته.

تشيلي ازدادت غنى في الاعوام الماضية، وازداد مع هذا الغنى التفارق الطبقي الحاد بين الأغنى والأفقر فيها، لأنه في نفس الوقت ازداد الفقراء فيها فقراً وهشاشة واستشعاراً بأن الدولة معادية في صميمها للطبقات الشعبية، ومحكومة بعقيدة “الصفر دولة” في المجال الاقتصادي الاجتماعي: تسخير الدولة لخدمة الأقلية الطبقية الأوليغارشية وجعل الأكثرية الشعبية لامرئية سياسياً قدر المستطاع، وغير محمية من شبكة التشريعات الحامية لحقوق المواطنية والعمل والسكن والتعلم والطبابة فيها.  

وهذا اختلاف هيكلي مع لبنان. تحكمت النيوليبرالية كعقيدة بالذين أشرفوا على السياسات المالية والاقتصادية بعد الحرب، لكن الأمور تطورت في هذا البلد ليس أبداً لخصخصة القطاع العام، بل لانتفاخة هذا القطاع العام وربطه من الداخل أكثر فأكثر بنموذج رأسمالية دولة تحت قيادة المصرف المركزي مالياً، فتراجع دور البورصة مثلاً في هذا النموذج إلى أبعد مدى، وقوض قانون العرض والطلب.

بخلاف تشيلي، من حيث هي حالة “رأسمالية محاسيب” متقدمة، يمكن اعتبار لبنان “رأسمالية دولة أوليغارشية”، الدولة المركزية فيه تتحكم تماماً بحركة السوق، إنما تفعل ذلك ليس أبداً لخدمة الطبقات الشعبية، بل العكس تماماً، لخدمة كبار المصرفيين وكبار المقاولين وكبار أمراء الحرب وكبار الموظفين المنتفخين مالياً في القطاعين العام والخاص. 

بمعنى من المعاني، يفرز النموذج اللبناني نقيضه النظري: فرأسمالية الدولة الأوليغارشية تثبت أن رأسمالية دولة من نوع آخر ممكنة هي رأسمالية الدولة الاجتماعية، التي تعيد تفسير العدالة الاجتماعية الواردة، إبهاماً، في مقدمة الدستور، فتقرنها بأمرين متداخلين في نفس الوقت، تحسين شروط عمل وحياة العدد الأكبر من اللبنانيين وإعادة توزيع الثروة فيما بينهم. 

في المقابل، هذا “القلب النظري” لرأسمالية الدولة الأوليغارشية المركزية إلى رأسمالية دولة اجتماعية لامركزية مقرونة بالتمثيل السياسي الفعلي الطبقات الشعبية في مؤسسات هذه الدولة، ليس يجد بعد النقلة النوعية من الشروط الأولية للتراكم الاحتجاجي إلى بدء استجماع شروط التحالف الشعبي الواسع القابل والقادر للخطو في هذا الاتجاه. 

وعلى امتداد أشهر الانتفاضة سيطر الفصل الحاد بين المقترحات المساقة بصدد المرحلة الانتقالية، والتي تمحورت إلى حد كبير، حول الأوهام التكنوقراطية، وبين التفكير بمستلزمات المرحلة التأسيسية، بل إن الجسم الأكبر للانتفاضة، وبخاصة من يستسهل فيه شعار “الثورة” تراه يحجم في نفس الوقت عن أي تفكير في سلطة تأسيسية، في دستور جديد. 

انتفاضة بهذا الحجم تسوغ الحاجة إلى دستور جديد

أساسا، تتداخل مشهديات الانتفاضة في لبنان مع مشهديات الانهيار. في حين أن الانتفاضة تقترن مع “فائض نمو” تحطيمي للرابطة الاجتماعية في تشيلي. هنا عقد اجتماعي يستأصل بقاياه إيثار الأغنياء تكبيد كل كلفة الكارثة الاقتصادية والمالية للفقراء، وهناك عقد اجتماعي يقصيه إيثار الاغنياء احتكار الغلة وحدها دون الفقراء. 

وإلى حد كبير، أظهر التشيليون وعيا أممياً بكونية الانتفاضة في بلدهم اكثر من أي احتجاجية معاصرة أخرى، ويفرد الناشطون من بينهم أهمية خاصة للمقارنات مع الانتفاضة اللبنانية الموازية، ويمكن أن يتم التذكير هنا بأن تشيلي تضم مئة ألف من المتحدرين من أصل لبناني يعرفون بـ”التركوس” لهجرتهم في ايام السلطنة..

لكن منتفضي تشيلي انتبهوا قبل أي شيء آخر إلى أن مسار الانتفاضة لا يكفي أن يكون لاهرمياً ولامركزياً. عليه أيضاً أن يربط بين محددات المرحلة الانتقالية وبين محددات المرحلة التأسيسية. من هنا، كان تصويبهم على الدستور، الموروث من زمن پينوشيه قبل شيء آخر. انتفاضة بهذا الحجم تسوغ الحاجة إلى دستور جديد. هذا ما قالوه، هذا ما لم تقله الانتفاضة عندنا بعد، مع أن قسماً واسعاً من المنخرطين فيها اعتبرها ثورة، والمفارقة تكبر في من اعتبرها ثورة، إنما من ضمن الآليات التقنية للدستور الحالي.. الذي صار كودائع الناس في المصارف، في عالم البرزخ.

تمكن التشيليون من إجبار الرئيس بينييرا، رغم كل مكابراته وقمعيته، من تحديد موعد في نيسان مقبل للاستفتاء مع أو ضد صياغة دستور جديد، ومع أو ضد انتخاب جمعية تأسيسية لصياغة دستور جديد. وهذا إلى حد كبير فارق أساسي مع انتفاضة لبنانية محتجزة ضمن فكرتي حكومة تكنوقراط ثم انتخابات مبكرة، من دون الاعتراف بأن البلد صار برمته، وفي مئوية قيامه، بحاجة إلى عقد اجتماعي جديد، بحاجة إلى مسار تأسيسي يفضي الى دستور جديد. هل لأننا نخاف الاختلاف حوله؟ تلك هي الطامة الكبرى، من يخاف الاختلاف أو شأو السلاح أو كل ما يستحضر لنفي الحاحية إعادة التأسيس الاجتماعي الدستوري للبنان لن يتقدم. 

مواضيع ذات صلة

لبنان ضحيّة المفهوم الخاطئ للانتصار!

يُخشى تحوّل لبنان ضحيّة أخرى للمفهوم الخاطئ للانتصار، وهو مفهوم رائج لدى قسم كبير من الأنظمة السياسية في المنطقة. ليس مفهوماً إلى الآن كيف يمكن…

“علوّ اليهود في الأرض”.. كيف نواجهه؟

“إعصار البايجر” هو النقطة الفاصلة في هذه الحرب، الإسنادية في شكلها، الاستنزافية في جوهرها. هو ليس تفصيلاً بسيطاً، بل رأس الجبل من تجويف خطير لخطاب…

بزشكيان ابن مهاباد يفعّل كرديّته في العراق !

لا تطلب إيران المساعدة من أحد لمعالجة مشاكلها الداخلية والخارجية، لكنّها لا تتردّد في فرض خدماتها على الآخرين في الإقليم.   قرار الرئيس الإيراني مسعود…

نكسة لبنان الرقمية

هل يمكن، بالمعنى العسكري، إلحاق الهزيمة بإسرائيل، من طرف “حزب الله”، أو حتى الأم الراعية، إيران، ناهيك، حتى لا ندخل في دائرة المزح، من طرف…