لا “ثورة تبغ” في لبنان يا سيّد

مدة القراءة 5 د


آخر مرة سمعت بالمقاطعة التجارية في لبنان كانت سنة 2001. كنت تلميذاً في كلية الحقوق والعلوم السياسية ــ فرع الصنائع، وكنا نرتاد مكتبة مقابل مبنى جوستينيان، تبيعنا دورات الإمتحانات والأوراق البحثية لقاء حفنة من الليرات.
كان الطلاب يتجمعون عند مدخل المكتبة الضيّقة ويطلبون من الشاب الذي يديرها (أحمد)، تصوير الكتب والملفات فينبري لتصويرها سريعاً. أذكر أنّي دخلت المكتبة ذات مرة، فوجدت أحمد قد علّق لافتة في الصدر على حائط أكلته الرطوبة وشبع منه العَفَن، كُتب عليها: “قاطعوهم… إخوانكم يموتون في فلسطين” قاصداً الولايات المتحدة.
اقتربت من أحمد وكان يتلقف الأوراق من ماكينة التصوير ويجمعها ثم يكبسها ويشقعها بخفة واحتراف. نظرت إلى ماكينته الذكية وسألته: “ما صنف هذه الماكينة الجميلة؟” قال:”XEROX” . سألته مجدداً: “وما بلد المنشأ؟”. تغيّر لون أحمد وبلع حنجرته لبرهة، ثم أجابني: “ممم… أميركية”.
ابتسمتُ بوجهه فتشجّع وبادلني ابتسامة مشابهة، ثم قال: “الأمر رمزي فقط. نعرف أنّ لا قدرة لنا على مقاطعتهم. نحن بحاجة إليهم وليس العكس”.
هذه القصة مرّ عليها ما يقارب 19 سنة، تذكرتها يوم الأحد الفائت فيما كنت أستمع إلى خطاب الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله الأخير الذي قال حرفياً: “لا يوجد عندنا قدرة اقتصادية مثل أميركا، لكن ألا يمكننا أن نذهب إلى العقوبات؟ منذ زمن طُرحت فكرة مقاطعة البضائع الأميركية، هذا يوجع الأميركي، لماذا لا نلجأ إليه؟”.

يظن السيد أنّ المقاطعة قد تعبىء الجماهير الغاضبة على مقاطعة من “يحارب إمام الزمان”

بعيداً عن الطرافة في مصطلح “العقوبات”، فإن الاستماع إلى خطاب السيّد الأخير حرّك في داخلي الحنين. أعادني في الذاكرة إلى “الزمن الجميل”، يوم كانت الدول تتغنّى وتحتمي بـ”مبدأ السيادة” الذي كان على أشُدّه في ظل الثنائية القطبية ودول عدم الانحياز. حديث السيّد الشيّق أعادني إلى كتب الجامعة نفسها، وحقبة ما قبل العولمة النيوليبرالية. أعادني إلى حقبة سراويل الـ bell-bottom والشغف إلى الديسكو وأفكار التحرّر و”الأناركية” التي نقرأ عنها ونشاهدها على “يويتوب” اليوم.
يحملك حديث السيّد على أكفّ التاريخ ويغوص فيك نحو الأعمق، إلى حقبة الـ”بروتو – عولمة”. إلى فتوى تحريم التدخين التي أصدرها المرجع الإيراني محمد حسن الشيرازي في حمأة “ثورة التبغ” عام 1891 التي أسست لاحقاً لحكم رجال الدين في إيران. ربما يظن السيد أنّ المقاطعة المزعومة قد تثني ناصر الدين شاه عن “التعاون مع الغرب”، وتعبىء الجماهير الغاضبة على مقاطعة من “يحارب إمام الزمان”.
يدعونا السيّد اليوم إلى مقاطع منتجات وابتكارات “شيطانه الأكبر”. أيُطالبنا بالتوقف عن استخدام عملاق البحث “غوغل” الذي زاد في ثقافة الناس وجعل حياة ملايين البشر حول العالم أسهل؟ ربّما سيحاول في الحُسنى أن يُقنع بيئته الحاضنة بالإقلاع عن استخدام منصّة “تويتر” الأميركية التي يدير فيها جواد نصرالله، ابنه، جيوشاً إلكترونية مقاوِمة تفتح نيران تغريداتها على كلّ من يخالف البيئة الرأي أو يخرج على “سلوك القطيع”.
ربّما سيدعوهم إلى رمي هواتف “آيفون” الذكية من النوافذ والشرفات. حتى إذا سلّمنا جدلاً بذلك وأردنا استبدال “سامسونج” و”هواوي” و”نوكيا” بـ”آيفون، فسنبقى عملاء لمنصة “آندرويد” الأميركية يا سيّد. صدّقني، إلى هذا الحدّ هم متغلغلون!
هل يعلم السيّد أنّ هذه الهواتف كلّها (بما فيها آيفون) صناعة الصين التي دعانا إلى التعاون معها قبل أسابيع، وهي اليوم تخوض بـ”الجيل الخامس” من الإتصالات، أشدّ الأزمات مع واشنطن وكانت سبباً لحرب جمركية شعواء، تكبدا بسببها خسائر بمئات المليارات ثم تراجعا بسبب استحالة القطيعة؟
عذراً يا سيّد. يؤسفني إبلاغكم أنّ مصطلحات مثل “الاكتفاء الذاتي” دفَنَتها العولمة النيوليبرالية مع أرسطو بداية التسعينيات، كما دفنت وَهْمَ “المقاطعة” مع الضابط الإيرلندي تشارلز بويكوت (مسماة على اسمه) فيما كنت أنت تستكمل النَهل الديني في مدينة قم.
ربما عدم قدرة سماحتك على التنقّل في شوارع الضاحية الجنوبية، للأسباب الأمنية المعروفة، حالت دون معرفتك أنّ مطعم KFC رمز العولمة الأميركي، يلاصق اليوم المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في حارة حريك، وترتاده عائلات الضاحية الجنوبية وتمضي فيه أمتع الأوقات نهايات الأسبوع.

مصطلحات مثل “الاكتفاء الذاتي” دفَنَتها العولمة النيوليبرالية مع أرسطو

دعك من السلع والبضائع. لما لا يستبدل أمن “حزب الله” سيارات “إيران خوردو” بمواكب الكاديلاد “إسكالاد” ذات الدفع الرباعي والزجاج الداكن، التي تجوب التقاطعات الحساسة في الضاحية ليلاً؟ لما لا يحمل عناصر الحزب بنادق “ذو الفقار – 7.62” الإيرانية بدل الـ “Mp5” الأميركية أو “HK” الشمالي الأطلسية؟
حتى حينما سُئل السيّد عن راتبه في مقابلته الشهيرة مع الزميل سامي كليب، صرّح أنّه 1300 دولار أميركي وليس مليون وتسعمائة وخمسون ألف ليرة. لا أنكر أنّ السيّد من المحظيين إن كان يحصل على راتبه بالدولار الأميركي في هذه الأيام وبعد أن تضاعف سعر الصرف بسبب الأزمة، فيما تتحضّر الحكومة اللبنانية (حكومته)، لطلب الإنقاذ من أعتى مؤسسات العولمة النيوليبرالية وعصا واشنطن المالية الغليظة: صندوق النقد الدولي… فأهلاً وسهلاً بالمقاطعة.

مواضيع ذات صلة

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…

ردّاً على خامنئي: سوريا تطالب إيران بـ300 مليار دولار

 أفضل ما كان بمقدور إيران وقياداتها أن تقوم به في هذه المرحلة هو ترجيح الصمت والاكتفاء بمراقبة ما يجري في سوريا والمنطقة، ومراجعة سياساتها، والبحث…

إسرائيل بين نارين: إضعاف إيران أم السُنّة؟

الاعتقاد الذي كان سائداً في إسرائيل أنّ “الإيرانيين لا يزالون قوّة مهيمنة في المنطقة”، يبدو أنّه صار من زمن مضى بعد خروجهم من سوريا. قراءة…

تركيا والعرب في سوريا: “مرج دابق” أم “سكّة الحجاز”؟

الأرجح أنّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان كان يتوقّع أن يستقبله أحمد الشرع في دمشق بعناقٍ يتجاوز البروتوكول، فهو يعرفه جيّداً من قبل أن يكشف…