تسجّل الذاكرة أمراً مماثلاً. نائب يغادر سريره في المستشفى ليعتلي المنبر في مجلس النواب وكأن “ضربة” لم تكن. النائب “القومي” سليم سعادة تعرّض لتوّه لاعتداء وثّقته الكاميرا من قبل متظاهرين غاضبين حانقين لم يتعرّفوا عليه بالتأكيد في لحظة الانقضاض على السيارة ذات الزجاج الحاجب. ساعات قليلة يمضيها نائب الأمة في غرفة الطوارئ يُعالج من ضربة عصا أصابت عينه اليسرى التي تورّمت وحوّلتها إلى بقعة زرقاء. يبدّل ثيابه الملطّخة بالدماء، ويدخل وسط التصفيق إلى قاعة مجلس النواب بعدما نجت سيارته هذه المرة من كمين المتظاهرين. النائب المتعارف على “هضامته” وعفويته يعتذر عن التأخير “لأسباب صحية”. يبدو الرجل بكامل تسامحه ورقيّه. لم يدّع على “مجهول” معروف، ولم يفتح النار على “مصطادي” النواب، لا بل لم يفتح السيرة أصلاً. قال ما أتى من أجله. وانتهى الأمر.
صيد المتظاهرين “الثمين” هو الأول لكن قد لا يكون الأخير. سيطرح السؤال البديهي. ماذا لو كان زياد أسود داخل السيارة؟ يمكن توقّع سيناريوهات سوداوية معطوفة على “زلزال” عوني يطلب المعاملة بالمثل “على الحامي”. سليم سعادة القومي لم تستجلب عينه المتورّمة الداكنة غضب طائفة ولا ثأر مجموعة حزبية ولا حتى “تغريدات” انتقامية من أصحاب الرؤوس الحامية في “القومي”. جلّ ما في الأمر أن ثمّة من تحسّر لوقوع هذا النائب بالتحديد في مصيدة الثوار. يا ليت كان فلان أو فلان. نائب الكورة الذي تعرّف اللبنانيون لتوّهم على ميزة فيه لا تتوافر على الأرجح إلا في قلة نادرة من النواب. الهضامة والشفافية والرسائل الذكية والمُحرجة. وبحكم الفرز القائم هو لا يندرج على لائحة النواب الفاسدين و”المفتعلين” بالدولة. يسجّل له معركته في ملف الإسمنت في الشمال وحنقه على محافظ الشمال رمزي نهرا الذي “يرقص التانغو مع شركات الإسمنت”!
خبير ومطلع من الطراز الأول وله فلسفته الاقتصادية الخاصة، ومنها أن أكلاف الهندسات المالية تضاف إلى الدين العام، ونسبة إلى الناتج المحلي هي الأعلى في العالم
حاجب الثقة عن الحكومة و”مُشرشِح” موازنتها غزير الأفكار والإسقاطات ومتخصّص في تبسيط الوقائع والأوجاع كي تصل الرسائل بشكل أسهل الى الرأي العام والسياسيين. صار الرجل “ترند” ويبدو أنه “سرق” بعض الاستعطاف والقبول لدى شريحة من الثائرين ومواقع التواصل الاجتماعي شاهدة على ذلك. كثر يجزمون أن سليم سعادة لم يكن ليغيّر حرفاً في خطابيه في جلسة إقرار الموازنة وطلب الثقة حتى لو تمثّل حزبه في الحكومة، وذلك بعدما خسر الحزب القومي ممثلته في مجلس الوزراء نقيبة المحامين أمل حداد.
بهذا المعنى ليس سليم سعادة صندوق بريد حزبه. نائب الكورة حالة موازية بحدّ ذاتها. عفويته تقارب الزهد حتى بطلب “القرب” من ناخبيه. هكذا حين سئل على أبواب الانتخابات النيابية ماذا تعد ناخبيك؟ أجاب “لا أعدهم بشيء”. وعن رؤية الحزب القومي السوري لقانون الانتخاب الجديد يردّ بعفوية زائدة “من عادتي بأن لا أخوض فيما لا أعرفه”. هل من معلومات عن طبيعة المعركة الانتخابية في دائرة البترون-الكورة؟ يجيب “بصراحة لا أعرف كم لائحة في الدائرة؟! لا يعرف ويقولها من دون حرج. لكنه يعرف الكثير في الوضع المالي والنقدي. خبير ومطلع من الطراز الأول وله فلسفته الاقتصادية الخاصة، ومنها أن أكلاف الهندسات المالية تضاف إلى الدين العام، ونسبة إلى الناتج المحلي هي الأعلى في العالم. برأيه “أن مظلومية خدمة الدين هي الأقصى والأعتى في الدنيا”!
يُضحِك سليم سعادة رئيس مجلس النواب نبيه بري كثيراً. هذه ميزة أخرى في الرجل. سخرية طافحة ولاذعة ونكات تصيب في الصميم. من يمكن أن يسرد هكذا توليفة عن الطبقة السياسية: “مع هالجماعة ما بقى نعرف إيد مين بتمّ مين حتى ما نقول شي تاني. “يحرق بيّ صحابكن”. ويتساءل سعادة النائب “كيف تفلّس الدولة ومصرف لبنان والمصارف في الوقت نفسه؟. الجواب هو أن “التلاتة بفرد تخت”! هذا صحيح وحقيقة مفجعة. بتعبير أكثر استهلاكاً “دافنينو سوى”. وعلى جاري عادته لا يناقش في البيانات الوزارية، بل يسرد ما يجب قوله بغض النظر عما سمعه من رئيس الحكومة طالب الثقة. بنظره البيان الوزاري “للتسلية أما بالنسبة للباقين فهو “بوتوكس” الحكومة تكتبه لتظهر أجمل وأفضل”، كما قال في جلسة مناقشة البيان الوزاري لحكومة سعد الحريري الاخيرة. وقد يكون على الارجح من أوائل النواب الذين حذّروا من الآتي: “شبح المصارف المالية يتهدّدنا في كل يوم تفتح به المصارف أبوابها”.