طرابلس: كلن يعني كلن.. إلاّ “رفيق”

مدة القراءة 4 د

 

تمتلك طرابلس ذاكرة تنبض بالحبّ والوفاء والحنين وبالثناء والتقدير لرفيق الحريري، قلّما امتلكتها مدينة أخرى، وعبـّرت عنها في مختلف المحطات، قبل الاستشهاد وبعده، بدون انتظارٍ وبدون حساباتٍ سياسية أو تنموية، فالفيحاء إذا أحبّت أعطت، وإذا حدّدت خصومها وأعداءها عرفت كيف تواجههم ولو بعد حين، وكانت مسيرتها مع رفيق الحريري مسيرة زاخرة بالنبل والمحبة على جميع المستويات.

طرابلس بأهلها الطيبين المندفعين، رغم فقر شريحةٍ واسعة منهم، وبكفاءاتهم العلمية والأدبية والسياسية والثقافية.. واكبوا رفيق الحريري منذ البدايات، ودعموا خياراته النيابية، رغم أنّ بعضها لم يكن موفّقاً من حيث الأشخاص، لأن حضوره الشخصي كان يغطّي ويعوّض تقصير وقصور النواب وحتى الوزراء..

عرف رفيق الحريري كيف يداوي جراح طرابلس الخارجة من الحرب والتائقة للنهوض، فكانت بصماته التي أعادت تأهيل البنى التحتية، وخاصة في التبانة والقبة، وكان مشروع البناء لمصلحة المهجرين نموذجاً عن تلك الإرادة التي شاءها الشهيد لإخراج أبناء المناطق المهمّشة من دائرة الاختناق بالفقر إلى أفق الشعور بالحرية والارتباط بالتنمية العادلة والانتماء للوطن.

هؤلاء الغاضبون توقفوا احتراماً أمام صورة رفيق الحريري الشهيد الشاهد على مظلومية مدينة حاصرها النظام السوري

بعد استشهاده، كانت طرابلس بركان الغضب الأكبر على امتداد الساحة اللبنانية، فشكّلت الحافز للجوار ولسائر البلدات والمدن للتحرّك حزناً وغضباً في وجه الجريمة التي تحوّلت إلى “جريمة العصر” ولتؤسّس لاحقاً قاعدة ارتكازٍ صلبة لثورة 14 آذار امتداداً إلى سنوات المواجهة الوطنية الطويلة..

تعلّمت طرابلس من رفيق الحريري كيف تطوّر دورها الوطني، وكيف تكسر موجات الطائفية والمذهبية وكيف تهزم تسلُّل الإرهاب، وكيف ترسّخ موقعها في المنظومة الوطنية الخلاّقة الرافضة للقيود التي حاول النظام السوري تكبيلها بها طيلة زمن الوصاية البائد..

شكّلت طرابلس بعد استشهاد رفيق الحريري واحة تلاقٍ وطنية، في ترجمةٍ جريئة وشجاعة لتوجهاته، فاستقبلت نواب ووزراء القوات اللبنانية وحزب الكتائب وأعطتهم أصواتها، كما استقبلت وزراء ونواب الحزب التقدمي الاشتراكي، وتلاقى فيها من جديد أبناء الجوار: البترون، الكورة، زغرتا وبشري وعكار والمنية الضنية..

صمدت طرابلس في وجه العواصف وحافظت على وفائها لرفيق الحريري، فغفرت لنجله سعد الكثير والكثير من الخطايا بحقها وحقّ الوطن، فبقيت لسنواتٍ تكبت محاولات الخروج على تيار المستقبل، وترفض حالات الاستقلال عنه، اعتقاداً منها بأن المسار سيستقيم وأن الأمانة في أيدٍ أمينة..

إلاّ أن الأمور لم تكن تسير كما يجب، ودخل الوريث في التسويات القاتلة، فخرج عن منهج أبيه المتوازن الحكيم والصلب، وجلبت التسويات إلى البلد ويلاتٍ هائلة، أدّت إلى انفجار ثورة 17 تشرين الأول 2019، فثارت طرابلس على الظلم والعنصرية والإرهاب السياسي الذي يجري بحقها من تحالف التسوية الرئاسية بمباركة “حزب الله” وصمت تيار المستقبل، وتحوّلت الفيحاءُ أيقونةً للثورة ومنبراً للوحدة الوطنية..

غير أن المشهد الأكثر تأثيراً في أول أيام ثورة طرابلس، هي أنه رغم كل فورة الغضب في الشارع، والتي كان أحد تعبيراتها إزالة صور الزعماء والنواب والوزراء.. أن هؤلاء الغاضبين توقفوا احتراماً أمام صورة رفيق الحريري الشهيد الشاهد على مظلومية مدينة حاصرها النظام السوري ودكّها بالمدافع مع حلفائه الحاكمين اليوم، وأعاد رفيق الحريري إحياءها من الرماد، وسعى لوضعها على خارطة المدن الحيـّة والحرّة..

أبقى ثوار طرابلس على صورة رفيق الحريري، رغم أن كثيرين منهم من جيلٍ لم يعايش تجربته المباشرة، لأنه باقٍ في الضمائر، ومحبته تتجاوز تفاصيل السياسة وتحوّلاتها البائسة.

 

مواضيع ذات صلة

رفيق الحريري والمسيحيون… الفهم المتأخّر

  لكم هي شديدة الحاجة اليوم إلى رفيق الحريري لجمع أطراف الوطن! كان الرئيس الشهيد رابطاً بين لبنان ولبنان رُغم أنّ علاقته ما كانت سهلة…

الثنائي في النبطية وقوّة الثورة

  فاطمة ترحيني تشهد محافظة النبطية مواجهة جديدة، أشبه بصراع دائم، بعدما استطاع جزء من أهل المدينة وقراها الاعتراض على “حزب الله” و”حركة أمل” وكل…

في وداع الحريرية؟

  هل سيستمر رئيس الحكومة السابق سعد الحريري في السياسة أم لا؟ يصعب افتراض أن أحداً يملك إجابةً عن هذا السؤال، حتى عند الحريري نفسه،…

أمام الضريح.. ماذا كان يفعل بهاء؟!

  على ماذا كانا يتصارعان بالأمس عند ضريح الرئيس الشهيد رفيق الحريري؟ على ميراث لم يُقتسم أو يُبع بعد؟ على ملكية قطيع من الأغنام؟ أم…