“الجنرال”. هذا هو اسمه بالنسبة إليّ. منذ طفولتي وأنا أسمع أبي يقول عن ميشال عون: “العدرا حامية الجنرال”، كأنه بلا اسم، فيما أمي كانت تصلّي لأجله في حروبه التي لاحقاً عرفت أنها حروبنا: المسيحيون الموارنة. هكذا علّمني أبي: “الجنرال حامينا من كل الأعداء، لولاه نحنا منصير تحت التراب”.
كأنه بلا اسم، اعتدت أن أفكر دوماً. رتبته العسكرية هي اسمه. كنت أدّعي أمام أقاربي وأصدقائي أنني أحبه مثلما يحبونه، لكن الحقيقة أنه لم يكن يعني لي شيئاً وجوده أو عدمه. كل ما أذكره عن عودته من منفاه الفرنسي إلى لبنان، هو مشهد أمي خلال ذرفها دموع الفرح بأسلوب طفولي.
قال أبي إن بلدنا سيشهد تغييراً جذرياً وإن حقوقنا المسلوبة ستعود إلينا، بعدما استولى عليها الرئيس الراحل رفيق الحريري بالتعاون مع نبيه بري ووليد جنبلاط، وسط سكوت “حزب الله” وعدم معارضته.
كان يتحدث عن “الجنرال” كأنه يسوع المسيح الذي بدلاً من شفائه المَرَضي سيشفي بلداً مريضاً. أبي لا يكذب، لكنه شخصٌ متفائل بشكل طفولي، تماماً مثل دموع ماما. كنت في عامي الحادي عشر عندما عاد “الجنرال”. لذلك، فإنني لم أفهم شيئاً من “الحقوق” التي وعدني أبي أنها ستعود إلينا، كما أنني لم أعرف من يقصد بـ”نحن”.
بعد سنوات، فرحتُ لفرح أهلي وأقاربنا بـ”أننا” أصبحنا ركناً أساسياً في الدولة، وذلك طبعاً بفضله: “الجنرال”. غير أنني لم أفهم سرّ الفرحة: ماذا يعني “أننا” أصبحنا في الدولة، بينما أبي ظلّ يسدّد أقساطي الجامعية بصعوبة، واستمرّ في دفع فواتير اشتراك الكهرباء، والمياه التي تنقطع أسبوعياً، كما أنه لم يتوقف عن الاستدانة من أجل إرسال المال إلى أخي المهاجر، أو المنتشر كما يقول جبران باسيل، في ألمانيا.
مع ذلك، كنا على وفاق، أهلي وأنا، إلى أن انقلبت حياتنا العائلية رأساً على عقب، مع بداية ثورة 17 تشرين، حيث تبيّن أنني جلبتُ “العار” لهم. كيف أكون مع الثوار ضد “الجنرال”؟ كانت وما زالت وستبقى خطيئة بالنسبة إليهم. “هيدا يسوع لبنان!”، اختتم أبي النقاش معي، ثم صرخ وهو يشير إلى السماء: “فوق فيه المسيح.. وهون فيه الجنرال..عم تفهمي؟!”.
لم أفهم، لكنّني خفت منه، فأومأت برأسي موافقة، كإشارة مني تقول: “إيه بابا، فهمت”. كانت المرّة الأولى التي أرى أبي غاضباً، مثلما يغضب ميشال عون أمام الصحافيين قبل أن يصبح رئيساً للجمهورية. لا أنكر أنني كنت استفزازية في نقاشنا، وربما تخيلت ذلك مقارنة بغضب أبي وعلامات التعجب في عينيه بالتزامن مع كل سؤال.
ومن بين تلك الأسئلة: ماذا فعل “الجنرال” منذ توليه الرئاسة حتى اليوم؟ ماذا فعل تياره منذ العام 2005؟ لماذا صهره صاحب الخطاب العنصري هو الحاكم الفعلي للجمهورية؟ أين وعود “الجنرال” في الإصلاح والتغيير؟ كيف أصبح حليفاً لمن عوّدنا على اتهامه بأنه سرق البلد، حتى إنّه كتب عنه “الإبراء المستحيل”؟
كان أبي يصرخ ويخوّن ويهدّد، عندما تذكرت عبارة مفادها: “كلما ازدادت الفكرة هشاشة، ازداد أصحابها إرهاباً في الدفاع عنها”. أردت أن أبكي في تلك اللحظة، إذ شعرت أنني غريبة عن أبي وأمي التي كانت تهتف باسم “الجنرال” في بعبدا مثل طفلة، عندما ردّ العونيون على تظاهرتنا المناهضة للرئيس.
بعد خمسة أيام على “ثورة” أبي ضدي، تغلبت على خوفي وتركت منزل أهلي. ثلاثة أشهر مرّت وأنا أتنقل بين منازل الأصدقاء وساحة الشهداء. غالبيتهم لم أكن أعرفهم قبل ثورة 17 تشرين المجيدة. كأن الثورة خطفتني من عائلتي. هذا اختطاف محبّب، رغم أنني أشتاق إلى أمي.
لن أيأس، فقد علّمتني الثورة أن مآسينا وآلامنا تنتظرها عدالة لا تتحقق إلا من خلال الأحرار. وأنا، كما كان اعتاد أن يقول أبي، عنيدة. هكذا يراني. أما الثورة، فإنها تراني حُرّة.