حركة تفشّي فيروس الكورونا في لبنان لا تزال بطيئة. الناس قامت بالواجب التحوّطي وأكثر. “كتر خيرها” وهي تعاني ما تعانيه جرّاء الحرب الاجتماعية المتواصلة عليها بشكل محموم منذ مطلع الخريف. مع هذا، هناك عنف حاقد يصيب الناس كل مساء على نشرات الأخبار المفترية. كأنّ “المفسد” النموذجي على أترابه في المدرسة قد تحوّل إلى نموذج للإعلامي التلفزيوني في هذا البلد. بالنسبة لهؤلاء المشكلة هي في الناس، وتوعية الناس تكون بالفوقية السوقية العدوانية عليهم، مقرونة بجهالة مطلقة يُظهرها هؤلاء الإعلاميون بالنسبة إلى أصل الفيروس وفصله، والمحدِّدات الأساسية لأيّ تناول لموضوع يتصل بالبيولوجيا والطب والأوبئة والصحة العامة. أكثر من أيّ وقت مضى، تظهر الطبيعة الأوليغارشية بامتياز للتلفزيونات المحلية، وتقترن حميّة التوعية عند عدد من إعلامييهم بجهالة لا حدّ لها.
رغم كلّ التوجّس المفهوم بل المطلوب، ورغم التهويل المانع للروية والرؤية، إلاّ أنّ البلد ما زال في منزلة متوسطة على قائمة البلدان المشمولة بهذه الجائحة، ويساعده في ذلك تأخر انتقال الفيروس إليه، ودخولنا في مطالع فصل الربيع، هذا في مقابل الخطورة الفعلية التي يشكّلها الاكتظاظ السكاني، والتي تُجذّرُها هشاشة السياسات العامة، لا سيما الصحية والبيئية منها، وانتشار أشكال من التنميط التطييفي والمناطقي للكورونا تؤدّي حكماً إلى عرقلة الوصول إلى معلومات وافية حول حركة انتشار الفيروس وتفاوتها بين المناطق.
يضاف إلى ذلك أنّ “الحجر المنزلي” يرفع، بشكل خاطئ، إلى أقنوم في ذاته، وعلى حساب المفهوم الصحيح، مفهوم “التماسف الاجتماعي”، أخذ المسافة الكافية لاعتراض حركة تفشّي الفيروس بين المواطنين. فالحجر المنزلي لوحده لا يكفل تحقيق التماسف، والتماسف ضروري داخل المنزل الواحد، كما هو ضروري داخل المبنى الواحد، ويمكن أن يسمح في الوقت نفسه بأن يكون مرعيّاً داخل مكان العمل المشترك، أو في الفضاءات العامة.
إقرأ أيضاً: كورونا ينحسر آخر نيسان إذا التزمتم المنازل
بعض مشكلتنا اليوم أنّ ملف مكافحة الكورونا بالنسبة إلى الجهات المشرفة عليه في لبنان يقوم على محاكاة عن بعد، وبلا دراية كافية، بالنموذج الصيني في الحجر والعزل. الصين بلد يطبّق منذ سنوات عديدة سياسة الطفل الواحد في العائلة الواحدة. العائلة النووية الصغيرة في لبنان أوسع من هذا في كل تقدير، ومرتبطة بشبكة عائلية أكبر. في الصين، هناك نظام كابرت سلطاته المحلية في مقاطعة خوباي في البدء على أنباء الأطباء لها بالفيروس المستجد، الأمر الذي تسبّب بالجائحة في المقاطعة ثم على مستوى الكوكب. لكنه في نفس الوقت نظام اعتمد على آلة الحزب الشيوعي الحاكم الضخمة، وعلى تقنيات الرصد والمراقبة بما فيها الدرونز، وعلى فصل كل شارع عن الآخر، وكل مبنى عن الآخر في مدينة ووهان، بل تمييز كل شقة سكنية عن الأخرى، واستخدم قاعدة البيانات الضخمة، البيغ داتا. التقاط عنصر واحد من كل هذا، هو الحجر المنزلي، لا يكفي ولا يجدي. والأدهى أنّه مدخل للتشنيع على الناس، والمزايدة عليهم، ودعوتهم إلى بث الكراهية تجاه بعضهم البعض، وهو ما يمارس بشكل محموم وأرعن عبر القنوات التلفزيونية.
ليس بمقدور البلد محاكاة النموذج الصيني كاملاً، وإن كان بالمستطاع البحث بشكل منهجي وسريع في كيفية لبننة عملية استخدام قاعدة البيانات الضخمة، حتى في نطاقنا المحلي. في نهاية الأمر، نعاني من اكتظاظ سكاني، لكن الديموغرافيا الكلية للسكان في بلد صغير كلبنان تبقى عاملاً مساعداً للتمكّن من السيطرة على حركة تفشّي الفيروس، لا سيما مع الاستفادة من العامل المناخي المقترب. صحيح أنّ الكورونا لن يختفي بين ليلة وضحاها مع ارتفاع درجتي الحرارة والرطوبة، لكن حركة انتقاله بين الناس لن تكون بنفس السرعة، ومع الحدّ المقبول من الحجر المنزلي معطوفاً على التماسف الاجتماعي، فإنّه يمكن تحديد نهاية نيسان المقبل موعداً وطنياً لمغادرة منطقة الخطر تجاه الكورونا.. أقله حتى الخريف المقبل.
بدلاً من أيّ محاولة لرؤية النور في آخر النفق، فإنّ السياسة الهوجاء لمحاربة الفيروس في الوقت الحالي بلبنان، تبدو وكأنها وجدت ضالتها في الندب بأن هذا الحجر سيستمر لمدة لا محدودة، لسنة مثلاً، ولما لا أكثر، ولما لا فيروس مستجد من بعده، ونحكم على الناس بملازمة المنازل للأبد. هناك شهوة تأبيدية لعملية الحجر المنزلي، وهذه لن تخدم إلاّ ردة الفعل المعاكسة، التبرّم السريع من الحجر، تماماً مثلما أنّ التوهم بأنّ الحجر يمكن أن يقتصر لايام قليلة إذا كان حجراً مطلقاً، ثم ينتهي الداء هو مصدر خطير للمزايدة على الناس، والتحريض عليهم.
ليس هناك شيء يدعى حجراً منزلياً مطلقاً. الحجر في مواجهة الأوبئة هو حكماً حجر نسبي، وفاعليته ترتفع إذا ما اقترن بالتحفيز على التماسف الاجتماعي إلى أن ينتهي الخطر، وبما في ذلك إيجاد آليات للتماسف الاجتماعي تمكّن من معاودة متدرّجة للأشغال في البلد.
المشكلة هي في الاستهتار النظامي والحكومي والإعلامي. يقوم على فصل السياسة الصحية عن تلك البيئية، والسياسة الصحية البيئية المشتركة عن السياسات الاجتماعية. يُطلب من الناس أن “تنضب” في بيوتها، كما تشيع اللفظة على التلفزيونات، دون أيّ استفهام جدّي يُذكر حول عملها ولقمة عيشها وإيجارات بيوتها وتسديد قروضها وفواتيرها وضرائبها، وعلى حساب المرضى المزمنين، هؤلاء أنفسهم الذي تقوم كل سردية مواجهة الكورونا على أولوية تجنيبهم مصابها، في حين أنّ الكورونا القاتلة بين المسنّين والمرضى المزمنين تقترب من كونها بمثابة أنفلونزا بالنسبة إلى سواهم.
أول درس يمكن تعلّمه في علم انتشار الأوبئة أنّ الاستهتار أو عدمه هو بالدرجة الأولى مسألة تعني السياسات العامة، فإن غابت هذه الأخيرة، أو فصلت الصحي عن البيئي عن الاجتماعي عن الاقتصادي، فالملامة لا يمكن أن تكون على الناس
تقوم حرب التلفزيونات على الشعب بالتسويق للسياسة اللا اجتماعية والعبيطة بامتياز لهذه الحكومة، التي كانت ترطن بالنقلة الفجائية نحو الاقتصاد الإنتاجي المزعوم قبل أسبوعين، رغم انتشار الكورونا وقتها، وصارت تطلب وقف كل إنتاج الآن، ولا تأبه بالمترتّبات الاجتماعية التموينية الإغاثية الأساسية، ويقتصر الجهبذ فيها على أنّ على الناس مساعدة بعضها بعضاَ. يقوم هذا العدوان المتلفز على تلميع واجهات المصارف. لا يتوانى عن بثّ الكراهية الطبقية والعنصرية. بما فيها ضد إيطاليا والإيطاليين. لا ينفك هذا الإعلام التوعوي – التجهيلي يردّد بأنّ “إيطاليا سبقتنا إلى التراخي والاستهتار فلننظر ما حلّ بها”. لكن أول درس يمكن تعلّمه في علم انتشار الأوبئة أنّ الاستهتار أو عدمه هو بالدرجة الأولى مسألة تعني السياسات العامة، فإن غابت هذه الأخيرة، أو فصلت الصحي عن البيئي عن الاجتماعي عن الاقتصادي، فالملامة لا يمكن أن تكون على الناس.
الناس في بلدنا متحوّطة وزيادة، لأنّها تعلم أيضاً “البير وغطاه”. تعلم أنّنا في دولة اللا عدالة الاجتماعية والصحية بامتياز. لكن من حقّ الناس وهي في البيت، ألا تسمع كلّ هذا الضجيج المسعور طول الوقت بأن “خليك بالبيت غصباً عنك”. هي تلازم منازلها عن وعي ودراية، والأفضل تجهيزها وتدريبها على قواعد التماسف الاجتماعي إلى أن يزول الخطر، لأنه لو تمكّنت من انتهاج هذا التماسف فعلاً، بمستطاعها أن تعرقل حركة تفشّي الفيروس حتى وهي خارج المنزل. حتى وهي وتعمل. وبخاصة حين تعمل. فليس نافلاً التذكير بعد كل شيء بأنّ البيانات الإحصائية الصينية دلّت على أنّ الكورونا فيروس منزلي بامتياز. وأنّه انتقل داخل المنازل أكثر بكثير مما انتقل في المواصلات العامة وفي الأماكن العامة.