إنهيار العرب وانهيار سنّة لبنان

مدة القراءة 5 د


الهزالة التي ظهرت في صورة رئيس الحكومة حسّان دياب في مجلس النواب، تختصر كلّ الحكاية. مشهده وحيداً مستفرداً به بلا ثقة طائفته، ولا الشارع اللبناني الأعّم، ولا ثقة المجلس الذي كان في حضرته، يروي سيرة طائفة كانت التعبير الأمثل عن الدولة – الأمّة، أو الدولة الوطنية، فيما استحالت أحوالها إلى الغرق في زواريب وتفاصيل الأحياء البيروتية. إنّها صورة الدول المنكوبة والناس المتروكة، تظهر على أنقاض عالم عربي يتداعى انحساراً بلا أدوار مؤثّرة في المنطقة العربية.

حسّان دياب هو نتاج اغتيال رفيق الحريري بما يمثّل من حصانة ودور كان السنّة يلعبونه في دولهم وخارجها. ومشهده الهزيل هو نتيجة للتفريط بإرث رفيق الحريري، وما كان يمثّله من تعاظم أدوار العرب، والسنّة خصوصاً، في تحديد وجهات سياسية في الشرق الأوسط برمّته. يوم كان رفيق الحريري زعيماً بحجم الوطن، كانت المملكة العربية السعودية صاحبة الدور الأكبر في المنطقة، تتقدّم على تركيا، وإيران، وتشكّل الندّ المواجه للعدوّ الإسرائيلي. وكان العرب كلّهم يبحثون ولو عن قميص سعودي رقيق يلتحفون به، فيكسبون دورهم وتأثيرهم.

إنحسر الدور، من الوطنية إلى المذهبية، فخرج وريث رفيق الحريري يعلن أنّه “أبُ السنة”. الأب الذي عند كل خسارة يغادر تاركاً ربعه نتيجة ردّة فعل، فيجدون أنفسهم متروكين وحيدين في لبنان كما في غيره من دول المنطقة على رأسها سوريا. تلك التي تُرك شعبها للتهجير والتفقير ومواجهة الموت. أُبّوة السنّة انحسرت أيضاً، من أقصى لبنان إلى أقصاه، ليقتصر الإهتمام في الحفاظ عليها في بيروت وحدها. هذا الخطّ البياني الإنحداري، يختصر حكاية تراجع “طائفة الدولة” إلى دولة الزاروب والحيّ.

لبنان الذي تُرك وحيداً منذ سنوات، كان قد سبق سوريا، وفلسطين والعراق، في مصير اليتم والتهميش. إنكفأ السنّة عن دورهم الوطني والقومي العربي، في بناء دول حداثوية وطنية، فتراجعت الدول المؤثرة إلى داخل حدودها. لذلك لا يجد اللبنانيون من يساعدهم لإنقاذهم من أزماتهم، ووجد السوريون أنفسهم متروكين لمصيرهم، ويُسلَّمُّ الفلسطينيون لمن يريد سحق قضيتهم. تحوّل السنّة إلى أقلّية من الأقليات التي تصارع في سبيل البقاء، وتخوض حرب الوجود.

أزمة المنطقة، بمكوّناتها المختلفة، من أزمة السنّة وانحدارهم. وما لم يُسلم في الحروب والمعارك، سُلّم بخفّة ومراهقة سياسية

ليس سنّة لبنان فحسب من يحتاج إلى زعامة عربية جديدة، تقدّم له ما اختزنته واكتنزته في تجارب غنية في مرارتها، منذ أيام النضال في سبيل القضية الفلسطينية التي اجتمع عليها العرب، قبل تفرّقهم في حروب الطوائف والمذاهب، وانحدارهم إلى صراعات السلطة ومواقعها. بل هناك فراغ، تجذّر في البيئة العربية، ملأته طموحات توسعية إيرانية، ومشاريع تركية، كلّها أودت بالعرب إلى فم “صفقة القرن” بحثاً عن ملاذ لأمن الأنظمة على حساب الشعوب. لبنان في هذا المجال، يختصر الحكاية أيضاً، منذ التراجع عن الكتلة النيابية الأكبر والأكثر تنوّعاً في مكوناتها، إلى أضعف الكتل، الضائعة في حسابات “الزعامة” والتائهة في زوايا البيوتات المصلحية المرتكزة على خفّة العقل، مقابل ثقل التقديس الشخصي، والذي تضيع فيه معاني السياسة وشرف خوضها.

“إنهيار” المنظومة السنّية في العالم العربي، سمح لإيران بالتقدّم، ولتركيا بالتوغّل، وهو وحده من سمح بالوصول إلى صفقة القرن، التي تقضي ليس على القضية الفلسطينية فحسب، بل على كلّ القضايا الوطنية العربية. وإغراق العرب في حسابات المذاهب والطوائف، مهّد الطريق، منذ اجتياح العراق، اتقسيم المنطقة إلى دويلات عرقية وطائفية، شهدت سوريا أكبر فظائعها، بينما ارتكبت في لبنان أخطاء لا تغتفر في السياسة، كرّست منطق التقسيم الطوائفي للتركيبة السلطوية. وما نتج عنها من مواقف وخطابات عنصرية مثّلها العهد الجديد، لا تنفصل عن معنى “التقديس الشخصاني” على حساب القضية، بل تشكّل نموذجاً لما تُقبل عليه المنطقة ما بعد صفقة القرن.

أزمة المنطقة، بمكوّناتها المختلفة، من أزمة السنّة وانحدارهم. وما لم يُسلم في الحروب والمعارك، سُلّم بخفّة ومراهقة سياسية. فخسر السنّة دورهم التاريخي والوطني في الجمع بدلاً من التفريق، ليدّعي آخرون مساعيهم للجمع، وهم أصحاب مشاريع تفريقية وتقسيمية. وهؤلاء الذين كان يسعون خلف رفيق الحريري، بحثاً عن غطاء وشرعية، أصبحوا من يهاجمونه ويتهمونه ويخوّنوه، طمعاً في سرقة دوره، ومصادرته، طامحين بالسيطرة على ما يمثّله وهدفهم أن يحلّوا مكانه في لعب دور التفاوض مع الغرب، لتحقيق مصالح سياسية ضيقة، تستنسخ أدواته، لكنّها تنافي مشروعه.

هذا الحنق وحده يجب أن يكون السبيل الوحيد للتحفيز على الإستفاقة، بدلاً من استمرار الغرق في سُبات التفاهة. واللعبة تبدأ من استعادة الوعي، لبناء مشروع وطني لبنان عربي، يوقف مسار الإنهيار، ويستنهض همّة جديدة لمشروع جديد خارج من تحت الركام.

مواضيع ذات صلة

من 8 آذار 1963… إلى 8 كانون 2024

مع فرار بشّار الأسد إلى موسكو، طُويت صفحة سوداء من تاريخ سوريا، بل طُويت صفحة حزب البعث الذي حكم سوريا والعراق سنوات طويلة، واستُخدمت شعاراته…

سوريا: عمامة المفتي تُسقط المشروع الإيرانيّ

عودة منصب المفتي العام للجمهورية السوريّة توازي بأهمّيتها سقوط نظام بشار الأسد. هو القرار الأوّل الذي يكرّس هذا السقوط، ليس للنظام وحسب، بل أيضاً للمشروع…

فرنسا على خط الشام: وساطة مع الأكراد ومؤتمر دعم في باريس

أنهت فرنسا فترة القطيعة التي استمرّت اثنتي عشرة سنة، مع وصول البعثة الفرنسية إلى العاصمة السورية، دمشق. رفعت العلم الفرنسي فوق مبنى سفارتها. لم تتأخر…

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…