هي جلسة تاريخية واستثنائية بكافّة المقاييس. في الخارج جدران عازلة، وثكنات عسكرية “متنقّلة” بين زواريب بيروت، وحناجر غاضبة تلعن ساعة من يصرّ أنّ “الدنيا تشتّي”.. لا أكثر من ذلك. وفي الداخل حضرت موازنة سعد الحريري، لكن بمشاركة رئيس الحكومة حسّان دياب. ضيفٌ أعزل، محاصر، مُستفرد، لم “يرتدِ” ثوب الثقة بعد، جُرّ جرّاً لتبني مشروع موازنة أعدّته حكومة أسقطها الشارع.
سيناريو من ألفه إلى يائه “براءة اختراع” من عين التينة، المهجوسة بموازنة يجب أن تُقرَّ بأيّ ثمن لأنّ العودة إلى الصرف على أساس القاعدة الإثني عشرية بات من المحرّمات في زمن الثورة. لا استردادها من قبل الحكومة الفتية كان ممكناً، ولا اجتيازها المهلة الدستورية للإقرار نهاية الشهر كان وارداً، ولا نجاح المتظاهرين في منع النواب من الوصول إلى مقاعدهم في ساحة النجمة كان مسموحاً. الحلّ جاء على شاكلة إقرار موازنة “الانهيار” كيفما كان، بسرعة قياسية لم تتجاوز الثلاث ساعات، وبحضور هزيل، وسكور ضعيف… وبست كلماتّ لنواب اختصرها سليم سعادة بكلمتين “لا مال، لا عسل”.
هي سابقة في تاريخ إقرار الموازنات لحظة الإنتقال بين حكومة وأخرى. لا تسجّل الذاكرة الدستورية أي مشهد سوريالي من هذا النوع. تغاضٍ فاضح عن ارتكابات دستورية وأخرى كانت تشهدها مداخل مجلس النواب. سلسلة استثناءات تكلّلت بمغالطتين ستتحمّل الحكومة المقبلة تبعاتهما لاحقاً: إقرار موازنة بـ 49 صوتاً، أي أقل من 35% من عدد أعضاء مجلس النواب، وبعجز نحو 7%. هي موازنة 2020 التي وَعَد الرئيس سعد الحريري في الورقة الإصلاحية قبل تقديم استقالته بأن تكون نسبة العجز فيها 0،6 %، وهي الموازنة التي لا تتطابق أرقامها مع مستجدات فرضتها الحركة الشعبية الإنقلابية بعد 17 تشرين. أمّا المغالطة الثانية فتكمن في السقوط باختبار قطع الحساب غير المقدّم منذ العام 2017.
انفصام كامل شكّل إدانة لأرقام موازنة حكومة “الشيخ سعد” التي لم تجد من يدافع عنها تحت قبّة البرلمان
هكذا بكل بساطة أُحرِجَ رئيس الحكومة حسّان دياب فتبنّى مشروع موازنة أعدّتها حكومة سعد الحريري المغضوب عليها من الشارع. نزل الكوماندوس “الأزرق” بمهمّة واحدة إلى مجلس النواب. حشر دياب في الزاوية وانتزاع براءة الذمّة منه. لكنّ رئيس الحكومة أَحرَجَ بدوره نواب كتلة “تيار المستقبل” التي بتلّقيها اعتراف دياب بالموازنة وبأرقامها حافظت على نصاب الجلسة ثم صوّتت ضدها. كان المطلوب فقط رفع المسؤولية عن ظهر الحكومة السابقة وإلقاء الحِمِل على ظهر التركيبة الحالية. انفصام كامل شكّل إدانة لأرقام موازنة حكومة “الشيخ سعد” التي لم تجد من يدافع عنها تحت قبّة البرلمان، سوى رئيس لجنة المال والموازنة إبراهيم كنعان، فيما يفترض أنّها ستكون “القاعدة” للرؤية الإقتصادية للحكومة الحالية، طالبة المليارات، والواعدة بالإصلاحات.
عدم وجود نصّ قانوني يمنع عقد الجلسة في ظلّ وجود حكومة لم تنقل الثقة بعد وممثّلة برئيسها فقط أو حتى حكومة تصرّف الأعمال، أتاح لحالة التخبط أن تأخذ مداها. سيكتمل المشهد بمباشرة حكومة دياب العمل بأرقام حكومة الحريري، وإن مع احتفاظها بحقّ تقديم مشاريع قوانين لتعديلات تطال موازنة الأرقام الوهمية والمنفوخة بعد نيلها الثقة.
في ظلّ هذا الكمّ من الفوضى فإنّ الحكومة ستتحمّل تبعاتها الإقتصادية والمالية بوجود تقديرات خيالية في الموازنة لا تتناسب مع الأرقام والوقائع على الأرض، وفي ظلّ مؤشرات مخيفة لناحية الانكماش والتضخّم ونسبة العجز العام.