وعد الحريري نوابَه والمسؤولين في تياره بأنّه سيعود محمّلاً بالدعم وأنّه سيكون قادراً على خوض مواجهة تضمن له العودة مظفّراً إلى السراي الحكومي. ولهذا قام الرئيس الحريري بجولةٍ خارجية شملت دولتين خليجيتن وصولاً إلى فرنسا، إلا أنّها جاءت مخيّبة لآماله سواء في الحصول على الدعم السياسي أو المالي. فكلّ المحطات مع “الأصدقاء” كانت متأثرة بخروجه من السلطة وبحالة التهالك والإحباط التي تحكم حركته السياسية، إضافة إلى عدم امتلاكه رؤيةً واضحة لمساره السياسي في هذه المرحلة الصعبة.
حاول الحريري فتح أفقٍ جديد لمشاريعه الخاصة. وهذه ربما تكون لها مجالاتٌ ومسارب محتملة، لأنّ الأعمال تبقى أعمالاً، والمصالح تبقى قائمة، بغضّ النظر عن التطورات السياسية.
في محطته الفرنسية، إلتقى الحريري أصدقاء عرباً وغربيين، بتشجيعٍ فرنسي واضح، لكنّه لم يأتِ بنتيجةٍ تُذكر نتيجة غرق حاشية الحريري من وزراء ونواب ومستشارين في وحول السلطة، بحيث باتوا ممّن شملهم غضب الشعب في ثورته العارمة والمستمرة، فكانت المحطّة الفرنسية – العربية مخيّبة لآمال الحريري المنتظرة أيضاً.
فشلت الجولة الخارجية للحريري في توفير الغطاء السياسي له، كما أنّها لم تنجح في فتح ثغرة جدية للتمويل، وهذا أمرٌ بدأ ينعكس على محيطه المباشر وعلى تماسك التيار الأزرق، الذي يعاني أساساً من حالة ركود نيابية فاضحة، تجعل نوابه وكأنّهم لبسوا أقنعة كاتمة للمواقف، في وقتٍ تعصف بالبلاد شدائدُ كبرى تستوجب أقصى درجات الشجاعة الإقدام والمبادرة والمصارحة، وكلّ هذه الاحوال، غائبة تماماً عن تيار المستقبل.
مع عودة الحريري، بدأت تتسرّب خيوط الإحباط مع استمرار الجمود وعدم المبادرة إلى تفعيل ما كان موضع انتظارٍ لإطلاق المسار الجديد، مع ما لهذا الموقف من تداعياتٍ واسعة النطاق، سواء فيما يتعلّق بالمحسوبين على الحريري في مواقع الدولة وخياراتهم في ضوء الواقع المستجدّ، أو بما يرتبط بعجلة عمل التيار الأزرق التي علاها الصدأ وكانت تنتظر “تزييت” المفاصل التنظيمية. لكن يبدو أنّ الإنتظار كان بلا جدوى.
من يبني مستقبله على رمالٍ متحركة لن يستقرّ له أساس
يواجه زعيم المستقبل إشكالية “حماية” مواقعه في الدولة، وأوّل امتحان هو مصير المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان، الذي سبق للحريري أن قال عن احتمال إقالته من منصبه بعد تشكيل الحكومة: “خلّي حدا يحاول، شو حبّة وحبتين أنا؟”. لكنّه يدرك أنّ قدرته على الحفاظ عليه باتت محدودة، وأنّه لا يملك من وسائل الضغط والتأثير الشيء الكثير، خاصّة أنّ القوى الدولية والعربية لم تعد متمسكة به كممرٍ إلزاميّ لمساعدة لبنان، وهي تفتح الأفق للمتغيرات أن تأخذ طريقها، سواء في تغيير وجوه السلطة، أو في خضوع هذه السلطة لسطوة الثورة وشروط المجتمع الدولي في الإصلاح والشروط السيادية للدولة.
كيف يواجه المدن الثائرة؟
أما الإشكالية الأخرى التي يواجهها الحريري، فهي كيفية إدارة تياره خارج السلطة وفي ظلّ أزمة مالية لا يبدو أنّ لها حلاً، ومع تقدّم الوقت تزداد تعقيداً، بينما يتعاظم الفراغ في الساحة السنّية الواقعة بين “مصيبة” محاصرتها من خصومٍ يعملون على تحطيمها وإعادتها إلى قمقم إرهاب حرّرتها الثورة منه، و”مصيبة” سوء التمثيل الذي طبع سلوك تيار المستقبل طيلة فترة وجوده في السلطة، وخاصّة بعد “نكتة” تسمية الحريري نفسه “بيّ السنة”.
لم تعد المدن ذات الثقل السني ترحّب بالحريري، وقد لبست بعد الثورة ثوب التحرّر من نير الإتهام بالإرهاب وتخلّصت من المتاجرة بها للظهور بصورة الإعتدال، فمزّقت صوره وأصرّت على إسقاطه من الحكم بعد أن يئست منه تماماً، وبعد أن نالها منه سوء العذاب، بعجزه عن حمايتها من كمائن “حزب الله” ومن تسلّطه على الأمن والقضاء.
لم يعد السنة يملكون خيار انتظار الحريري، لعلّه يصلح أمره ويعود إلى صوابه، ويسلك مسالك أبيه الشهيد في التماسك والصلابة والبطانة المناسبة، وفي إيصال النهوض التنموي إلى أقاصي بلداتهم من عكار إلى عرسال، ومن شبعا إلى طرابلس. فما أصابهم من نكبات أكبر من انتظار “زعيم” لا يتقن ترجمة الإنتصار ولا يعرف تنظيم الخسارة.
يقيم السنة في لبنان مقارنات محبِطة بين حالة البؤس التي وصلت إليها مناطقهم في ظلّ حكم سعد الحريري، وبين المكتسبات الهائلة التي استطاع جبران باسيل تحقيقها للمناطق التي يمثّلها سياسياً. وكيف تمكّن الوزير العوني من إطباق قبضته على المرافق العامة، فأخرج المدراء والموظفين السنّة من مناطقهم ومواقعهم برضا الحريري، ليحلّ محلهم موظفون باسيليون يرفعون صوره بدل صور رئيس الجمهورية وأعلام تياره بدل العلم اللبناني.
يفرش أهل السنّة الحصاد مع سعد الحريري، فلا يجدون سوى الوعود. بل إنّ كثيرين منهم يروون بمرارة أنّه حتّى وعود “السيلفي” لم تتحقّق، بينما تتعاظم التحدّيات الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية، فإذا بهم يجدونه قد غادر في رحلةٍ طويلة، من دون أن يقدّم أيّ تفسير أو طمأنة لما سيكون عليه الحال في قادمات الأيام الصعبة.
مع تفاقم الأوضاع، سيدرك السنّة في لبنان أنّهم كانوا ضحية “الحريرية السياسية المنحرفة” مع سعد الحريري، وأنّ عليهم أن يبحثوا عن أدوارهم الجديدة وأن يصوغوا مستقبلهم بأيديهم، لأنّ من فرّط بشركاته ومصالحه، لن يستطيع حماية مصالحهم في أتون صراعٍ يلتهب من بغداد إلى بيروت، وأنه لم يعد للحريري ما يفعله، سواء أطال سفراته أو اختصرها، فالأمر سيّان. ومحاولة تقديم نفسه على أنّه “حريري جديد” إتضّح أنّها نسخة سيئة التعديل عن نماذج أخرى لم تعد صالحة للعمل السياسي والوطني.