خرج الرئيس سعد الحريري من السلطة، فسيطرت عليه حالةٌ من الغضب العارم رغم كلّ ما يحاول إظهاره من اعتيادٍ على الوضع الجديد، محاوِلاً تصوير استقالته على أنها استجابة للثورة وأن طروحاته تتماهى مع ما يطرحه الثوّار. لكنّ العارفين ببواطن التيار الأزرق يدركون أنّ الأمور لم تهدأ وأنّ شعار إعطاء الفرصة لحكومة حسّان دياب، لم يكن إلاّ لكسب الوقت قبل القيام بالهجوم المضادّ للعودة إلى السراي الكبير، في حال سمحت الظروف والإمكانات بذلك.
وضع الحريري نفسه في حقول ألغامٍ لا تنتهي، ودخل رهاناتٍ قاتلة بدون أن يضع الحسابات الدقيقة لكلّ هذه المقامرات، وأوصل نفسه ومعه لبنان إلى مأزقٍ غير مسبوق، تتشابك فيه الكوارث السياسية مع الإنهيارات الإقتصادية والتعاظم في تضخّم الفساد وتوسّع هيمنة الطبقة الحاكمة. حتّى أنّها ابتلعت الموارد ووضعت البشر على طريق التشرّد والجوع، في شراكةٍ كاملة الأوصاف مع العهد ورعاته المحليين والإقليميين.
عند مغادرة الرئيس سعد الحريري السراي ردّد الكثير من اللبنانيين بيت الشعر الشهير:
إبكِ مثلَ النِّساءِ ملُكاً مُضاعاً
لم تحافظ عليه مثلَ الرِّجالِ
ورغم كلّ السجالات الظاهرية مع النائب جبران باسيل، إلا أنّ الحريري لم يُعلن حتى الساعة خطأ ارتكابه للتسوية الرئاسية ولا ندمه على دعم “صديقه جبران” ولا اعترافه بالكوارث الناجمة عن سوء إدارته لتلك التسوية البائسة، وهذا إن دلّ على شيء، فإنّه يدلّ على تمسّكه الضمنيّ بالحبل السريّ للتسوية الذي يبدو أنه لم ينقطع حتى اليوم.
ومن الناحية الأخرى، كان خطاب التودّد لـ”حزب الله” واضحاً من خلال الإبتعاد عن تحميله أيّ مسؤولية عن الكوارث التي تتوالى على البلد، وفتح معارك جانبية مع “الحلفاء” السابقين، القوات اللبنانية والحزب التقدمي الإشتراكي. وهذه هي الوصفة النموذجية التي يطلبها الحزب للإستمرار في حماية سطوته على لبنان بغطاء “التمثيل السني” ودعم “التمثيل المسيحي” العوني.
ماذا عن السعودية؟
أما الإشكالية الهامدة لدى الحريري، فهي العدائية المضمرة التي يحملها للمملكة العربية السعودية، وهي باتت تخرج على لسان ابن عمته وأمينه العام أحمد الحريري في الجلسات التنظيمية والتوجيهية، وما يصدر عنها من مواقف تنمّ عن انقطاع الوصل وتحوّل الحال، وانتظار التقلّبات والإنقلابات، وهذا الكلام يتردّد على ألسنة المسؤولين في التيار بحيث يتّضح أنّه ليس مجرّد اجتهادات، بل هو سياسة لم تخرج بعد إلى السطح، وتنتظر نضوج الظروف، والأرجح أنها ستكون “البحصة الكبرى” المنتظرة، بعد أن بقّ الحريري “البحصة الصغرى” ضد سمير جعجع ووليد جنبلاط.
هذا، بينما يؤكد محامون سعوديون أنّ الحكم الصادر بتصفية ممتلكات شركة “سعودي أوجيه”، وتعليق المطالبات المالية ضدها يتعلق بالشركة فقط، ولا يتعلق بمن ارتكب مخالفة النظام، وتجاهل تطبيقه وغرّر بالدائنين، وتسبّب في وصول الشركة إلى هذا الحدّ من الخسائر الفادحة وقد بلغت الديون أضعاف أضعاف رأس المال، متعدّياً بذلك على أموال الآخرين.
وعودٌ بعودةٍ مظفّرة
قبل مغادرته لقضاء عطلته العائلية في فرنسا، كثّف الحريري اجتماعاته الداخلية، وسط غضبٍ متنامٍ ناجم عن “اكتشافه” هشاشة حضور تيار المستقبل في المناطق، وخاصة طرابلس وبيروت، فضلاً عن سوء إدارة التظاهرات المحدودة المؤيدة له، وتحديداً الصدام العنيف مع الجيش في كورنيش المزرعة. وهو صدامٌ أوجد أزمة بين الحريري وبين قائد الجيش العماد جوزف عون، وأساء للعلاقة مع المؤسسة العسكرية، وأسفر عن أزمة تتّخذ أشكالاً متعدّدة مع الأمين العام للتيار.
“موتٌ سريري”
دخلت مفاصل تيار المستقبل التنظيمية في حالة “موتٍ سريري”، بينما بدأ المنسّقون والمسؤولون يتحرّكون بهوامش شخصية واسعة، مما يهدّد بتحوّل التيار إلى مراكز قوى غير قابلة للضبط وصالحة للإستغلال، محلياً وإقليمياً.
وربما هنا يكمن الإشكال أو اللغم الكبير أمام الرئيس الحريري، في كيفية ترتيب علاقته بأمين تياره أحمد الحريري، بعد أن كفّ يده عن بيروت وجاء برجل الأعمال أحمد هاشمية ليدير الوضع في العاصمة، وخاصة في طريق الجديدة. لكن يبدو أنّه يسلك طريق الصدام مع الشخصيات السنية، كسبيلٍ للتقدّم في السلّم السياسي، كما فعل عندما دفع صبيانه نحو منزل النائب نهاد المشنوق، واصطدم مع الإعلام بتحطيم واجهة قناة “الجديد”.
ربما لأنهم أدركوا هذه المرة أن مغادرة الحريري لن تكون كسابقاتها، لا من حيث الظروف ولا من حيث النتائج
في المقابل، إنفضّت المجموعات التي كان الحريري قد استقطبها بُعيد خروجه من الحكم على أساس الوعود، وخاصة في طريق الجديدة، لكنّها اليوم عادت إلى مواقعها السابقة، بعد تلقّيها الخيبة الجديدة من سعد.
ينتظر أحمد الحريري فشل المجموعة الجديدة في بيروت، ويراهن على عودته بلا منازع، بعد أن تسقط أوراق البدائل التي يحاول الرئيس الحريري تنظيمها في محاولته إيجاد توازناتٍ جديدة، بعد تجربته النيابية الأخيرة، والهزال الذي ظهر به تياره لحظة خروجه من السلطة.
ماذا سيفعل سعد؟
ما بين مآزقه الخارجية وتخبطه الداخلي، لا يبدو السؤال: “ماذا سيفعل الحريري؟”، ذا جدوى، لأنّ النتيجة لن تعدو أن تكون دوراناً في الأزمة، حاله حال البلد وحال المحيط، مع تسجيل المزيد من الخسائر، لأنّه سيمارس “قوّته” على الشارع السنـّي، بينما يتضاءل نفوذه في المعادلة الوطنية والإقليمية والدولية.