وقف أسامة أمام ملعب الـ “غول – goal” يرمق بنظراتٍ خانها الأمل سياجاً حديدياً عُلّقت عليه بطريقةٍ غريبة ألعاب مشوّهة. نقترب منه نحاول التحدث إليه، يعقد حاجبيه ويلتفت للجهة الأخرى، نسأله: “لماذا أنت هنا ولست في المدرسة”، ويجيب بصوتِ كبُر قبل أوانه: “أنا ماني بالمدرسة أنا بساعد أبي بلمّ الحديد”… وبعدها يجيبنا على سؤالٍ يتعلق بحبّ العلم وتحقيق الأحلام بقوله: “أنا ما بحلم بشي.. وما بدي صير شي بس إكبر”. ويهرب بعيداً.
لا مكان هنا للأمل. لا مكان للطفولة. ولا مكان حتى للأحلام المزيّفة. بل هنا مكانٌ نال كلّ من سكنه من اسمه نصيب.
تختلط عليك مشاهد البؤس في حيّ المنكوبين في طرابلس. البيوت هنا تتراصف بعشوائية على شكل معلباتٍ غذائية خالية إلا من الفقر. أما الشوارع والزواريب المتشابهة فكلها تعيدك الى نقطة الحرمان نفسها. تخاوى الصفيح مع الإسمنت مع أسلاك الكهرباء المتعانقة لحدّ الخطر، كما تخاوت الرطوبة مع مياه الصرف الصحي مع ما تركته المعارك من آثار، في مساحةٍ لا تتجاوز الكيلومتر المربع الواحد، مطوّقة أمنياً بالحواجز العسكرية، وجغرافياً بين أوتوستراد طرابلس – عكار غرباً، والبداوي ووادي النحلة شمالاً، ومخيم البداوي شرقاً، وجبل محسن جنوباً.
سرّ التسمية يعود إلى 65 عاماً مضت نسبةً إلى حال سكانها الذين نكبهم طوفان نهر أبو علي في الـ 1955، وانقسموا بين من تلقفت معاناتهم الدولة وبنت لهم أبنية بأسعار رمزية في “خان العسكر”، وبين من تُرِكوا لمصيرهم واتخذوا من أرض مشاع الدولة مكاناً لهم حمل اسم “المنكوبين” فيما بعد.
السبعيني محمود الحموي، الذي يستقبلنا بمفكِّه الحديدي في أولى زواريب الحيّ، يستذكر ليلة النكبة التي قلبت حياة أهالي السويسة والحديد في قلب طرابلس القديمة رأساً على عقب، يوم كان يعدّ من العمر 6 سنوات، كان الوقت متأخراً من الليل بعد ساعات وساعات من المطر الغزير، يروي: “فاض النهر وجرف معه عشرات القتلى وجرف درج منزلنا ومدخله، فطغى صوت غضب النهر على صوت العويل والاستغاثة، وما كان من والدي وجديّ إلا أن حاولا الهرب بنا من نافذة المنزل المطلة على مئذنة جامع التوبة، حيث استقرّينا لساعات وربما حتّى ساعات الصباح الأولى”. تخونه الذاكرة في حساب لحظات الرعب ويتابع: “ريثما تمت نجدتنا ونجدة ما يقارب الـ60 عائلة تفرقت بين من استطاع الهرب وبين من التجأ إلى سطح المسجد”.
العائلات توزّعت بين آل الصميلي، أبو مراد، أبو لقمة، أبو عريضة والعموري والحموي وبعض الفلسطينيين، منهم من بقي في الحي ومنهم من باع “بالبلاش للغريب وفرج الله عليهم وخرجوا من الحيّ”. هذا قبل أن يتمدّد الحي ليضمّ اليوم ما يقارب الـ 600 إلى 650 عائلة، أي ما يقارب الـ 2000 إلى 2500 نسمة، بحسب إحصاءات الحموي: “فكل عائلة أصبحت مؤلفة من 4 و5 عائلات أو أكثر بعد زواج أبنائها وربما أحفادها. كنا بيتاً واحداً، وصرناً اليوم 4 عائلات”.
يهزّ الرجل برأسه ويقول: “الله يرحم الحريري لو كان عايش كان شال المنطقة متل ما عمّر البقار عن جديد”
يرفع المفكّ ويحركه بعفوية (قبل أن تخطفه ابنته من يده) في خضم الحديث عن مسلسل النكبات المستمر الذي لحق بأهالي الحيّ: “إسّاتنا منكوبين، معيشياً وإنمائياً وأمنياً”.
لعلّ النكبة الأكثر فتكاً بالسكان تلك المعيشية: “عندما كانت الدنيا بألف بخير نحن كنا على قدّ حالنا، وعندما أصبحت العالم ليست بخير صرنا نحن تحت أسفل السافلين”.
قبل سنوات كان يعمل في محلّ حدادة في باب التبانة، مع تقدّم العمر ومعاناته من مشاكل صحية عديدة في القلب بدأ بالعمل بشكلٍ خفيف في محلّ آخر على طلعة المنكوبين: “منذ ثلاثة أشهر ما ضربت ضربة” يقول.
حال محمود الحموي كحال كثيرين من أرباب عائلات المنكوبين. يتنقّل بين عملٍ وآخر بحثاً عن لقمة العيش: “كان لديّ دكان صغير فيه برّاد بوظة، وعندما تعطّل لم أستطع تصليحه، وباقي منتجات الدكّان استهلكناها نحن لأننا ما كنا قادرين على شراء منتوجات جديدة مكانها”.
وعند سؤاله كيف يتدبّر أموره اليوم، يجيب: “نحن طبقة تعيش رغم كلّ الظروف لأننا نأكل أيّ شيء ونشكر الله”. هنا، تستنفر إحدى فتيات العائلة لتقول: “نحنا لولا الإعاشي (الحصص الغذائية) كنا متنا الجوع”. وهنا فهمنا لهفة بعض السكان فور دخولنا الحيّ وسؤالنا عن أيّ جمعيةٍ ننتمي.
يهزّ الرجل برأسه ويقول: “الله يرحم الحريري لو كان عايش كان شال المنطقة متل ما عمّر البقّار عن جديد”.